- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الحشد الشعبي بين الحكم الشرعي والدستور العراقي
حجم النص
بقلم:د. عباس جعفر الامامي وردتني فكرة البحث المجمل هذا - بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لصدور فتوى الجهاد الكفائي لمحاربة الارهاب في العراق المتمثل بهجوم (داعش) على الأراضي العراقية - إنطلاقاً من الاعتقاد الراسخ لدى المسسلمين الشيعة الامامية بوجه خاص من أنَّ المجتهد الجامع لشرائط الفتوى هو النائب العام للامام المهدي (عليه السلام)، فحكمه يعدُّ بمثابة حكم الامام المعصوم الذي هو حكم رسول الله (ص) والذي بدوره حكم الله تعالى من جهة. ومن جهة أخرى ورود مصطلح المرجعية الدينية في ديباجة الدستور العراقي، وكان هذا البحث. الحشد الشعبي شرعاً: قد لا نجد بين كلمات فقهاء الشيعة الامامية إجماعاً على مسألة كما نجده في مفهوم «حكم المجتهد» في موضوع من المواضيع المطروحة في هذا المجال، ولهذا قالوا كنموذج: (حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه حتى لمجتهد آخر، إلا إذا علم مخالفته للواقع، أو كان صادراً عن تقصير في مقدماته)([1]) وما شابه من تعابير مختلفة تؤدي لنفس المعنى. ولا ندخل هنا في بحوث فقهية حول ولاية الفقيه وفق نظرية الحسبة، أم وفق نظرية ولاية الفقيه العامة او المطلقة، وبناءً على مختلف النظريات يكاد اجماع الفقهاء قائم على عدم جواز نقض حكم الحاكم الجامع لشرائط الافتاء وهو الفقيه المجتهد. وحكمه هو حكم شرع الاسلام في زمن غيبة الامام عليه السلام وفق مبادئ المذهب الشيعي الامامي في هذا الصدد. ولا أدخل في هذه العجالة بتفاصيل دخول (داعش) الى العراق، وأسبابه والجهات الداعمة لها، والأطراف الحاضنة لأفرادها، والكتل والأشخاص السياسية المؤيدة لها. لكن لا يشك إثنان في أن (داعش) شكَّل خطراً على العراق شعباً وحكومةً، وأن الحكومة عجزت من صدِّها والدفاع عن أرض العراق وشعبه لخيانة بعض القادة السياسيين والأمنيين مما أدّى الى هروب القادة وانسحاب قطعات كبيرة من القوات الأمنية من الجيش والشرطة الاتحادية أمام تقدم داعش سواء في الموصل وكركوك وصلاح الدين وديالى وأخيرا في الأنبار. قرأت المرجعية الدينية الموقف بسرعة، ووجدت تشدُّد الأزمة السياسية والأمنية في البلاد، وما يحدقُ من الخطر على العراق أرضاً وشعباً وسيادةً، ووفقاً لمسؤوليتها الشرعية المناط على عاتقها بالدفاع عن أرواح الناس وممتلكاتهم وأعراضهم ووجودهم اضطرت الى إصدار فتوىً بالجهاد الكفائي على العراقيين الساكنين في داخل العراق. وبعد فترة ألحق بتلك الفتوى وصايا للمجاهدين طالبتهم الالتزام بتلك الوصايا، والتي هي مجموعة اخلاقية متكاملة للمجاهدين في جبهات القتال، مثَّلت قيم الاسلام العليا في زمن الحرب والجهاد وما ينبغي أن يتخلَّق بها المجاهدون فيما بينهم وبين الله بالدرجة الأولى، وفيما بينهم أنفسهم ومع العدو. فكان أثر الفتوى واضحاً أمام أنظار العالم أن تمكَّن العراقيون من إيقاف تمدد (داعش) في الأراضي العراقية، بل تمكنوا من طردهم من كثير من المناطق والأراضي التي استولوا عليها واحتلوها. فالفتوى الصادرة من المرجعية الدينية تعدُّ حكماً شرعياً في شريعة الاسلام وفق مبادئ الفقه الشيعي الإمامي وقواعده وطريقة تفكيره، ومخالفة مثل هذا الحكم تعدُّ مخالفة صريحة لضرورة من ضروريات الاسلام، لأن حكم الفقيه الأعلم الجامع لشرائط الفتوى، المقبول لدى عامة الناس، نافذ في الأمور التي يتوقف عليها نظام المجتمع، ولا يجوز لأحد أيّاً كان نقضه. ولا يخفى أن سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني يعدُّ من أعلم المجتهدين في زماننا المعاصر وفق آراء الكثير من أهل الخبرة في هذا المجال، ومقبوليته لدى عامّة الناس أشهر من أن يُذكر، والنظام المجتمعي العراقي كاد أن يتفكَّك لولا تدخُّل المرجع السيستاني بفتواه تلك. ولو تم غضُّ النظر عما ذكرناه أعلاه بكل تفاصيله، إلا أنَّ وقوف المرجعية الدينية وأخصُّ بالذكر سماحة المرجع السيستاني الى جانب العملية السياسية وإرشاده لها من اليوم الأول لانبثاقها، والى دعوتها للانتخابات، والى كتابة الدستور بأيدٍ عراقية من قبل برلمان منتخب، ومعارضتها لدرج (قانون إدراة الدولة للمرحلة الانتقالية) ضمن عمل مجلس الأمن الدولي، والى معارضتها للاحتلال ومقاومتها إياه بطريقة تحفظ مصالح العراق وشعبه من دون تعريض افراد الشعب للقتل وهدر دمائهم، واخيراً الى اخراج المحتل من العراق، والى محاربتها للطائفية، ووقوفها امام الارهابيين، ودعوته الى إعمال ولاية الأمة على نفسها من خلال انتخابات حرة وبقوائم مفتوحة، والى مواقف لا يمكن عدُّها في هذه العجالة، ألا يعطي مبرِّراً للمرجعية الدينية بأن تصدر أمراً للشعب العراقي لمقاومة الارهاب المصدَّر الى العراق تحت مسمّى داعش؟ ألا تعدُّ مخالفة أوامره مخالفة للمصلحة العراقية العليا؟ ألا يعدُّ الحشد الشعبي المدعوم من قبل المرجعية الدينية الرشيدة حشداً وطنياً وجيشاً عقائدياً موالياً للوطن والشعب بعيداً عن مصالح الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية المتناحرة فيما بينها لحفظ مصالحها المختلفة؟ في حالٍ ليس بمقدور أحدٍ أن يدّعيَ بوجود مصلحة شخصية معيَّنة للمرجع السيستاني بارشاده للعملية السياسية، وإصداره بفتوى الجهادالكفائي، غير مصلحة حفظ النظام العام، وحفظ دماء العراقيين وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم. وبطبيعة الحال أنه ومنذ بزوغ فجر السيستاني على العراق خاصة والعالم الاسلامي بشكل عام لم تصدُر من سماحته فتوىً ولا بيان يحمل إشارة ولو من بعيد الى شيءٍ من الطائفية والانحياز لجهة، أو الى تقسيم وتمزيق وحدة المجتمع العراقي وتقسيم العراق الى دويلات، بل العكس الحقيقة بعينها أن سماحته دعا دوماً الى الوحدة والتكاتف والتآلف في أحلك الظروف السياسية والأمنية التي مرَّ بها العراق منذ نيسان 2003م، ونادى بالدفاع عن ابناء السنَّة قبل الشيعة، وعن غير العرب قبل العرب، وعن غير المسلمين قبل المسلمين، بل حتى عن الأجانب المقيمين في العراق (كالفلسطينيين وغيرهم) قبل العراقيين، بوصفه أن الشعب العراقي أمةٌ واحدةٌ، وأبناؤه مواطنون متساوون أمام القانون بعيداً عن أي نوعٍ من أنواع التمييز، وأنَّ العراق بلدٌ واحدٌ أرضاً وشعباً، وأرضه لا يقبل التقسيم، وأن قوة العراق بوحدة شعبه الوطنية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ألا يكفي كل هذه المواقف الوطنية والشرعية والأخلاقية والدستورية للامام السيستاني أن يكون الحشد الشعبي الذي نادى سماحته بتأسيسه حشداً يمثِّلُ كل مكونات الشعب العراقي؟ فما دام الأمر كما نقرأه فإنَّ مخالفة ومعارضة الحشد الشعبي أو العمل بكل ما يقلِّلُ من شأنه في مقاومته للإرهابيين (داعش وغيرها) تعدُّ مخالفةً لأحكام الشرع المبين. وأما الحشد الشعبي دستورياً: فإن ديباجة أي دستور لأي بلد تحمل عادة فلسفة الدستور الذي تنبثق منه المواد الدستورية بما لا تتعارض معه، فعليه يعدُّ فقهاء الدستور والقانون الديباجة جزءاً من الدستور، ويكون كل مفهوم ورد فيه واجب الالتزام به وتطبيقه كأي مادة قانونية، وكل فعل يصدر من أي جهة ورد إسمها في الديباجة فعلاً دستورياً يعاقب القانون مخالفته، أو العمل ضده، لأنه عمل ضد الدستور ومخالفة صريحة له. يقول الدكتور أيمن سلامة في توضيح ما أعلاه: (ديباجة الدستور تُعد بمثابة مدخل له، وتتضمن الديباجة عددا من المبادئ، أو الأسس، أو الأهداف، أو علل بعض الأحكام، أو التوجهات الدستورية، بل أن الديباجة تمثل بمجموعها ايجازا لأغلب منطلقات الدستور، ومرتكزاته، وهي بهذا الوصف قد تمثل وسيلة من وسائل تبيان النصوص الدستورية، وايضاح معانيها. وفي ذات الوقت تتضمن ديباجة الدساتير ما يشد الأمة، والمجتمع إلى تاريخهما، وبصفة مبدئية فان ديباجات معظم دساتير العالم لا تشكل قواعد معيارية، بقدر ما تعكس افصاحات عن النية، أو خطابات تعبوية حضارية تعكس ثقافة المجتمع وتحفظ حضارته في قالب دستوري يرتضية الشعب. واذا كانت ديباجة الدساتير تمهد لمتونها، فمن الطبيعي أن تكون سائر نصوص الوثيقة الدستورية امتداداً منطقياً يتسق مع ما ورد في الديباجة، تتممها، وتمتنها، وتؤكدها، ولا تخرج عن الغايات المستقاة والمستلهمة لما أتت به الديباجة. لقد اختلفت مدارس الفقه الدستوري في تحديد ماهية القيمة القانونية لديباجة الدستور ومدي الزامية نصوص الديباجة مقارنة بمتن الوثيقة الدستورية ذاتها، وهل يمكن فصل الديباجة عن متن الوثيقة، واعتبارها بالتالي مجرد نصوص تكميلية ليس إلا، أم أنها وحدة عضوية من ذات المنتج الدستوري تنتج ذات الآثار والالتزامات الدستورية التي يحوزها المتن الدستوري المشار إليه، ان المدرسة التقليدية القديمة في الفقه الدستوري كانت تنظر الي ديباجة الدساتير باعتبارها نصوص تكميلية من أجل تضمين المنظومة الحقوقية ما فاتها من مكتسبات اجتماعية، وثقافية، وغيرها في لحظة تاريخية معينة. ومن هنا فقد سعت الجمعية التأسيسية في فرنسا – علي سبيل المثال – و في عام 1946م الى تضمين ما سمته: المبادئ الضرورية للعصر في مقدمة دستور عام 1946م، فقد حرصت هذه الوثيقة على تعزيز مبدأ المساواة، وأكدت حقوق العمال، وألزمت الدولة بتوفير ضمانات تحقيق هذه الحقوق. جدير بالذكر أن المجلس الدستوري الفرنسي كان قد قضى في عام 1981م بأن ديباجة دستور عام 1946م ليس سوى أحكام تكميلية، وأن نصوص الدساتير والاعلانات التي سبقت هذه الديباجة هي في حد ذاتها أولى على الديباجة. ويسير الفقه الدستوري العربي علي نهج مغاير للتقليد الفرنسي القديم، حيث يميل إلى تأييد الاتجاه الذي يرى أن لديباجة الدساتير قوة قانونية ملزمة تعادل قوة النصوص الدستورية الأخرى التي تتضمنها، ومما يؤكد هذا الرأي اعتبار المجلس الدستوري الفرنسي في قراره عام ١٩٧١م أن الديباجة جزء لا يتجزأ من الدستور، حيث قرر أن: «المقدمة أصبحت جزءا لا يتجزأ من الدستور، وتشكل وحدة دستورية نصية»)([2]). وقد ورد في جزءٍ من ديباجة الدستور العراقي، محل الشاهد: (... عرفاناً منّا بحقِ الله علينا، وتلبيةً لنداء وطننا ومواطنينا، واستجابةً لدعوةِ قياداتنا الدينية والوطنية واصرارِ مراجعنا العظام... زحفنا لاول مرةٍ في تاريخنا لصناديق الاقتراع بالملايين، رجالاً ونساءً وشيباً وشباناً في 30 يناير/كانون الثاني سنة 2005م... فسعينا يداً بيد وكتفاً بكتف، لنصنع عراقنا الجديد، عراق المستقبل...)([3])، فقد اعتبر الدستور بهذه الفقرة من الديباجة موضوع المرجعية الدينية وحدة دستورية نصية، وفقاً لمبادئ الفقه الدستوري أعلاه، ما تعني أن كل ما يصدر من هذا المقام الدستوري مادة دستورية بحتة، ويتحول الموضوع الصادر من المرجعية الى عهدة الحكومة لتقنينها وتنفيذها حرفياً حاله حال أي مادة تشريعية تصدر من مجلس النواب. فمخالفة الحشد الشعبي الذي اصدرت المرجعية الدينية أمراً وحكماً شرعياً لتأسيسه تعدُّ إضافة الى كونها مخالفة شرعية فهي مخالفة للدستور العراقي. ولا يخفى تتوجَّه هنا نقاط اشكالية كثيرة على غالبية المسؤولين الكبار في العراق الذين يعارضون تواجد الحشد الشعبي في مناطق معينة من العراق، في حين يدَّعون بأنهم يمارسون دورهم ومناصبهم لتطبيق مبادئ الدستور، ويشرعون قوانين وفق تلك المبادئ. والسؤال الذي يوجَّه لأمثال هؤلاء أياً كان هو: إما أن ترفضوا الدستور كاملاً وتقدموا استقالاتكم من مناصبكم وتتخلوا عن رواتبكم وامتيازاتكم المادية والمعنوية؟ وإما أن تنفِّذوا الدستور بكل حذافيره، ولا تبقوا تعتاشون على الدستور وتنادون بصحته كلما اقتضت مصالحكم، وتضعوه تحت اقدامكم اذا خالفت مصالحكم؟ وأخيراً لابد من التأكيد على ضرورة تعديل الدستور أو كتابة دستور جديد تتلاءم مواده فيما بينها، بما تقتضي مصلحة الشعب العراقي بكل مكوناته، لا بما تقتضي مصالح الأحزاب والعوائل والشخصيات المتنفذة. والله من وراء القصد. [1] ـ السيد محسن الحكيم، منهاج الصالحين، مسألة 26، ص10. [2] ـ مقال للدكتور أيمن سلامة، المنشور على الرابط: http://onaeg.com/?p=1323706. [3] ـ الاستشهاد بفقرة من فقرات الدستور العراقي ليس معناه الاقرار بصحة كل ما ورد في الدستور، حيث اعترف وأقرَّ كل المتصدّين للعمل السياسي في العراق بوجود ثغرات ومواد خلافية في هذا الدستور، وينادي غالبيتهم بتعديل تلك المواد كما نصت عليه مادة من مواد الدستور نفسه.
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- تفاوت العقوبة بين من يمارس القمار ومن يتولى إدارة صالاته في التشريع العراقي