حجم النص
بقلم: حيدر السلامي لو تأملنا قليلا لأدركنا أن العمر الحقيقي لا يعد بالأيام أو الشهور أو السنين، وإنما بالمواقف والأعمال، ولو كانت في نهايته العددية. وربما ضاق أو العمر أو اتسع وامتد لصنع الأعمال والمشاريع وإنتاج المواقف سواء أكانت جليلة أم ضئيلة. التاريخ حافل بأمثلة الرجال الذين صنعوه بعد أن ترجموا أعمارهم مواقف كريمة ومآثر عظيمة حفظتها عنهم الأجيال ودونتها لهم المحابر فخلدت وخلدوا وما انفكوا إلى الآن يقودون حركة الزمان بما بآثارهم. ولعل عملا واحدا او موقفا واحدا خلد إنسانا واحدا أو أمة بكامل أفرادها. مثل ذلك قرأناه في شعراء الواحدة إذ لم يترك أحدهم سوى قصيدة أو مقطوعة شعرية واحدة رغم طول حياته المؤلفة من الأيام والشهور التي قضاها والسنوات التي أمضاها والأحداث التي عايشها والأشخاص الذين جايلهم ـ وبعضهم كان معمرا ـ أو أدركهم على الأقل. إن موقفا واحدا في كربلاء خلد رجالا كثرا أنتجوا فيما بعد مواقف عديدة وأمدوا الحياة بأعمار مديدة. من أولئك الخالدين بأفعالهم الخيرة وأقوالهم النيرة وسيرهم الوضاءة شهيد كربلاء الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر الأسدي. وبصرف النظر عن سني حياته الأولى قبل عاشوراء فإن موقفا أو اثنين جعلا منه شيخ الأنصار وحبيب الأعصار ومن ثم صاحب السجل وأعني به سجل زوار الحسين عليه السلام بل أصبح بمنزلة الصاحب والحاجب في آنٍ معاً. الصاحب المحارب في اليوم العاشر والحاجب الكاتب للزوار منذ استشهد حتى اليوم الآخر. ابن مظاهر شيخ ثمانيني تهدل حاجباه الأشيبين على عينه فشدهما بعصابة وبرز يقاتل بين يدي الحسين عليه السلام ببسالة منقطعة النظير. لقد حفظ التاريخ لهذا الشيخ في تلك الملحمة موقفين، الأول: لما بلغه قول السيدة زينب عليها السلام لأخيها تسأله بشأن أصحابه: هل خبرتهم؟! فنادى حبيب بجمع الأصحاب ونظم لهم مسيرة كانت أروع استعراض عسكري شهدته الأيام. ثم رفع عقيرته هاتفا مع الجمع: أن يا زينب لا تخافي ولا تحزني وقري عينا.. مؤكدا كلنا فداء الحسين لن نسلمه ما سلمنا ولن نرجع إلا بإحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة. وكان الموقف الثاني لما أثخن بالجراح وهم بالرحيل عن الدنيا وأجاءه الموت إلى حجر صاحبه زهير بن القين وتحاورا قليلا وسأله زهير الوصية فالتفت فقال: أوصيك بهذا مشيرا إلى الحسين عليه السلام لا تتركه إلا أن تموت دونه، فكانت تلك آخر كلمة سجلها التاريخ لحبيب ونقلها عنه على مدار الوقت. هذا الأنموذج التاريخي شاء الرب له أن يبقى ويتجدد ويتكرر ويتجسد حينا بعد حين وصولا إلى يومنا بعد أن كدنا نفقد الأمل بوجود أشباهه ونظائره حتى ارتفع في آفاق المجد نداء المرجعية العليا بوجوب الدفاع عن العراق ومقدساته واستجاب الغيارى من أبناء الشعب وهبت الجموع لتعقد الألوية وتشكل الفرق وتسيّر الأفواج وتنظم السرايا وتؤلف الكتائب فيحتشد الآلاف من المواطنين شيعة وسنة عربا وكرداً ومن كل دين وطائفة ليكونوا بمجموعهم الحشد الشعبي المساند للقوات الامنية العراقية الباسلة. ويوم التقى الجمعان في جرف النصر وآمرلي وبشير وسامراء وتكريت والأنبار وغيرها، برز من بينهم الشيخ الثمانيني من جديد ليرفع لواء النصرة والذود عن الكرامة والشرف والأرض والعرض واضعا نصب عينيه ضريح الحسين ملبيا نداءه الا من ناصر ينصرني.. مستعرضا في لحظة هي كل العمر كل ما أوتي من قوة هاتفا: أن يا زينب لا تخافي ولا تحزني.. ولن تسبي مرتين وإنا قادمون وللفداء حاضرون ثم ليختم لحظته تلك بهتاف لبيك يا حسين لبيك يا حسين حتى النفس الأخير وحتى لقاء البشير على الحوض بغرة بيضاء ولحية نوراء موشاة بالدماء إمضاء لشهادة حمراء وثياب خضر من سندس وإستبرق وكأس من معين لذة للشاربين.. فسلام عليه حبيبا لعصره ولكل العصور.
أقرأ ايضاً
- الماء والكهرباء والوجه الكليح !
- الغدير بين منهج توحيد الكلمة وبين المنهج الصهيوني لتفريق الكلمة
- في الدستور العراقي.. النفط ملك الشعب و راتب و قطعة أرض لكل عراقي