- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الخطاب الحسيني صوت هادر على مدى الزمان/الجزء السابع
حجم النص
بقلم: عبود مزهر الكرخي هزيمة الجيش: ومُنِيَ جيش مسلم بهزيمة مخزية لمْ يحدث لها نظير في جميع فترات التاريخ، فقد هزمته الدعايات المضلّلة مِنْ دون أنْ تكون في قباله أيّة قوّة عسكرية. ويقول المؤرّخون: إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انسلّ جماعة مِنْ أصحابه وفرّوا منهزمين، وهم يقولون: ما لنا والدخول بين السلاطين ؟!.(1) ولمْ يمضِ قليل مِن الوقت حتّى انهزم معظمهم، وقد صلّى بجماعة منهم صلاة العشاء في الجامع الأعظم فكانوا يفرّون في أثناء الصلاة، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتّى انهزموا بأجمعهم بما فيهم قادة جيشه , ولمْ يجد أحداً يدلّه على الطريق، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه، وكان قد اُثخن بالجراح فيما يقوله بعض المؤرّخين، وقد أمسى طريداً مشرّداً لا مأوى يأوي إليه , ولا قلب يعطف عليه.(2) ولمّا انهزمت جيوش أهل الكوفة وولّت الأدبار تصحب معها العار والخيانة، وقد خلا الجامع الأعظم منهم، فلمْ يطمئن الطاغية الجبان مِنْ ذلك ؛ خوفاً مِنْ أنْ يكون ذلك مكيدة وخديعة، فعهد إلى أذنابه بالتأكد مِن انهزام جيش مسلم وأمرهم بأنْ يشرفوا على ظلال المسجد لينتظروا هل كمِن أحد مِن الثوار فيه ؟ وأخذوا يدلون القناديل ويشعلون النار في القصب ويدلونها بالحبال فتصل إلى صحن الجامع، وفعلوا ذلك بالظلّة التي فيها المنبر فلمْ يروا إنساناً، فأخبروه بذلك فاطمئن بفشل الثورة وأيقن بالقضاء عليها. وسارع بإعلان حالة الطوارئ وهي كما قلنا حالة أبتدعها هذا اللعين بن اللعين وقام بتفتيش الييوت والمنازل بحثاً عن مسلم وسد منافذ وطرق الكوفة لئلا يهرب واعتقال قادة الثورة. ومن غريب الأمر على أهل الكوفة ماذكره العلامة المرحوم باقر القرشي حيث يقول: وأوعز الطاغية إلى محمّد بن الأشعث أنْ يرفع راية الأمان، ويعلن إلى الملأ أنّ مَنْ انضم إليها كان آمناً ؛ ولعلّ أسباب ذلك ما يلي: 1 ـ التعرّف على العناصر الموالية لمسلم لإلقاء القبض عليها. 2 ـ إعلان الانتصار والقضاء على الثورة. 3 ـ شلّ حركة المقاومة، وإظهار سيطرة الدولة على جميع الأوضاع في البلاد. ورُفعت راية الأمان فسارع الكوفيون الذين كانوا مع مسلم إلى الانضمام إليها ؛ لنفي التّهمة وإظهار إخلاصهم للحكم القائم آنذاك.(3) وهذه هي منتهى السفالة والخيانة من قبل أهل الكوفة والذين معروفين بغدرهم وخيانتهم. ولنرجع إلى مسلم فقد بات في نهاية الأمر عند بيت طوعة المرأة الشريفة والعفيفة ولكن أبنها المجرم قد وشى به عن أبن زياد وسارعوا بالهجوم على البيت والحادثة معروفة أنه لم يستطع أحد أسره واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين، ثمّ عادوا إليه فأخرجهم منها وانطلق نحوهم في السكّة شاهراً سيفه لمْ يختلج في قلبه خوف ولا رعب، فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه وقد أبدى مِن البطولات النادرة ما لمْ يشاهد لها التاريخ نظيراً في جميع عمليات الحروب، وكان يقاتلهم وهو يرتجز: هو الموتُ فاصنعْ ويكَ ما أنتَ صانعُ = فأنتَ بكأسِ الموتِ لا شكَّ جارعُ فصبرٌ لأمرِ الله جلّ جلالهُ = فحكمُ قضاءِ اللهِ في الخلقِ ذائعُ(4) وأبدى سليل هاشم مِن الشجاعة وقوة البأس ما حيّر الألباب وأبهر العقول ؛ فقد قتل منهم فيما يقول بعض المؤرّخين واحداً وأربعين رجلاً(5)ما عدا الجرحى، وكان مِنْ قوّته النادرة أنّه يأخذ الرجل بيده ويرمي به مِنْ فوق البيت(6)، وليس في تاريخ الإنسانية مثل هذه البطولة ولا مثل هذه القوّة، وليس هذا غريباً عليه ؛ فعمّه علي بن أبي طالب أشجع الناس وأقواهم بأساً وأشدّهم عزيمة. واستعمل معه الجبناء مِنْ أنذال أهل الكوفة ألواناً قاسية وشاذّة مِنْ الحرب، فقد اعتلوا سطوح بيوتهم وجعلوا يرمونه بالحجارة وقذائف النار(7)، ولو كانت في ميدان فسيح لأتى عليهم، ولكنّها كانت في الأزقة والشوارع. بحيث وصفه أبن الأشعث أن طلب مِنْ سيّده ابن مرجانة أنْ يمدّه بالخيل والرجال ؛ فقد عجز عن مقاومة مسلم. ولامه الطاغية قائلاً: سُبحان الله! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به، فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة(8)؟! وثقل هذا التقريع على ابن الأشعث، فراح يشيد بابن عقيل قائلاً: أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال مِنْ بقالي الكوفة، أو جرمقاني مِنْ جرامقة(9)الحيرة ؟!(10)، وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كفِّ بطل همام مِنْ آل خير الأنام.(11) وفي النهاية تم أسره بمكائد جيش أبن زياد من الكوفيين وبقيادة اللعين محمد بن الأشعث وأعطاه الأمام وتم أقتياده إلى أبن مرجانه(لعنه الله) وهو مثخن بالجراح وأدخل على أبن زياد وكان بطلاً هصوراً بحيث لم يسلم على أبن زياد فأنكر عليه الحرسي وهو مِنْ صعاليك الكوفة قائلاً: هلاّ تسلّم على الأمير ؟ فصاح به مسلم محتقراً له ولأميره: اسكت لا اُمّ لك! ما لك والكلام ؟! والله ليس لي بأمير فاُسلّم عليه ولولا طول المقالة لنقلت كلام البطل مسلم بن عقيل إلى اللعين أبن مرجانة وكيف تم تحقيره والذي هدده بالقتل فلم يأبه والذي قال في نهاية كلامه في مجلس الطاغية أبن زياد: إنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المُثلة وخبث السريرة. والله، لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربة ماء لطال عليك أنْ تراني في هذا القصر...(12) وقد طلب أن يوصي وهذا عادة العرب فلم يجد قريشي غير اللعين عمر بن سعد ولم يعطها إلى أبن مرجانة دلالة على نسبه الحرام وأنه ليس من قريش وكان هذا المجرم أبن سعد كان متثاقلاً من هذه الوصية وحالما أوصى مسلم سارع الخائن أبن سعد إلى طاغيته بن مرجانه وأسرها إليه عند ذلك أنكر عليه ابن زياد إبداءه السرّ فقال: لا يخونك الأمين، ولكنْ قد يؤتمن الخائن. وهذه هي قمة النذالة وعدم حفظ المواثيق والعهود.(13) وجاءت لحظة الآنتقال إلى الرفيق الأعلى للقائد العظيم أنْ يُنقل عن هذه الحياة بعد ما أدّى رسالته بأمانة وإخلاص، وقد رُزِقَ الشهادة على يد الممسوخ القذر ابن مرجانة، فندب لقتله بكير بن حمران الذي ضربه مسلم، فقال له: خذ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه بيدك ؛ ليكون ذلك أشفى لصدرك. والتفت مسلم إلى ابن الأشعث الذي أعطاه الأمان فقال له: يابن الأشعث، أما والله، لولا أنّك آمنتني ما استسلمت. قمْ بسيفك دوني فقد اخفرت ذمّتك. فلمْ يحفل به ابن الأشعث.(14) واستقبل مسلم الموت بثغر باسم، فصعد به إلى أعلى القصر وهو يسبح الله ويستغفره بكلّ طمأنينة ورضى، وهو يقول: اللّهم، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا.(15) وسلم على أبي عبد الله الحسين وقال: السلام عليك يا أبا عبد الله. وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيين فضرب عنقه , ورمى برأسه وجسده إلى الأرض(16)، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي يحمل نزعات عمّه أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومُثُلَ ابن عمّه الحُسين، وقد استشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين. ونزل القاتل الأثيم فاستقبله ابن زياد، فقال له: ما كان يقول وأنتم تصعدون به ؟ ـ كان يسبّح الله ويستغفره، فلمّا أردت قتله قلت له: الحمد لله الذي أمكنني منك وأقادني منك. فضربته ضربة لمْ تغن شيئاً، فقال لي: أما ترى فيّ خدشاً تخدشنيه وفاءً مِنْ دمك أيّها العبد. فبهر ابن زياد وراح يبدي إعجابه وإكباره له قائلاً: أوَفخراً عند الموت(17)! وقد انطوت بقتل مسلم صفحة مشرقة مِنْ أروع صفحات العقيدة والجهاد في الإسلام، فقد استشهد في سبيل العدالة الاجتماعية ومن أجل إنقاذ الاُمّة وتحريرها مِن الظلم والجور. وهو أوّل شهيد مِن الاُسرة النّبوية يُقتل علناً أمام المسلمين ولمْ يقوموا بحمايته والذبّ عنه.(18) وفي جزئنا القادم سوف نناقش مسيرة الشهادة والتضحية لسيد الشهداء سيدي ومولاي أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) إن شاء الله إن كان لنا في العمر بقية. والسلام عليكم ورحمة وبركاته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر: 1 ـ الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء 1 / 108. 2 ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2:384. 3 ـ تاريخ الطبري 6 / 209 ـ 210. 4 ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2:390. 5، 6 ـ مناقب ابن شهر آشوب 2 / 212. 7 ـ المنذر النضيد / 164، نفس المهموم / 57. 8 ـ المحاسن والمساوئ ـ للبيهقي 1 / 43. 9 ـ الفتوح 5 / 63. 10 ـ الجرامقة: قوم من العجم صاروا إلى الموصل. 11 ـ مقتل الحسين ـ المقرّم / 180. 12 ـ الفتوح 5 / 93. 13 ـ تاريخ ابن الأثير 3 / 274. 14 ـ الطبري 6 / 213. 15 ـ الفتوح 5 / 103. 16 ـ مروج الذهب 3 / 9. 17 ـ تاريخ ابن الأثير 3 / 274. 18 ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2:408.
أقرأ ايضاً
- حجية التسجيلات الصوتية في الإثبات الجنائي
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري