حجم النص
أمين قمورية
عندما يتهم وزير الخارجية السعودي الغرب بأن مواقفه مما يجري في مصر ”تريد التغطية على ما يقوم به المناوئون (للحكومة المصرية المؤقتة) من جرائم وحرق لمصر وقتل لشعبها الآمن”، فان ذلك لا يعني ان المملكة انقلبت على سياساتها الخارجية المعروفة وصارت في الجانب المناهض للخط الاميركي.
وعندما يندّد سعود الفيصل بالذين يحرقون المساجد والكنائس ومقار الشرطة في القاهرة والدلتا والصعيد، فهو لا يجهل الفاعل بل يحدده بوضوح ويسميه بالاسم. وعندما يؤيد علنا “انتفاضة الثلاثين مليونا” ويرفض وصف ما حدث في “30 يونيو” بأنه انقلاب عسكري، فمعنى ذلك ان السعودية لا تساند الحكم المصري الجديد فحسب، بل يعني خصوصا انها ترفض في المطلق عودة محمد مرسي وجماعته الى السلطة.
وعندما تنحاز السعودية الى “ثورة الشعب المصري” وتنثر دعمها المادي والمعنوي والسياسي على حكومة المستشار عدلي منصور ومن يقف خلفها، فلا يعني ذلك ان المملكة صارت توّاقة الى الديمقراطية وحامية الاصلاح والتغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بقدر ما يعني انها تخوض حربا بالوكالة ضد خصم لها في أرض مصر.
إنها حرب سعودية غير معلنة على “اخوان” مصر. وهذه الحرب المحتملة بين الطرفين ليست مستجدة، بل هي حصيلة لتاريخ مُثقل بين الطرفين على الرغم من الزواج المصلحي وشهور العسل القصيرة. فجماعة “الإخوان المسلمين” منذ أن أسسّها حسن البنا عام 928، كانت منظمة سياسية من ألفها إلى الياء. منظمة تعد أن الإيديولوجيا الإسلامية بمثابة علاج سياسي للأمراض التي فتكت بالعالم الإسلامي طيلة القرون الماضية. وهي في خضم تبينها لهذا المبدأ، عمدت إلى دمج الفكر الغربي السياسي الحديث بالتقاليد الإسلامية، كما رضعت من ثقافة جيلين من الفكر السياسي الإسلامي في الحقبة الأخيرة من عهد الدولة العثمانية، ولم تر تاليا تناقضاّ بين الحكم الإسلامي وبين المبادئ الجمهورية والبرلمانية ولاحقاً الديمقراطية والتعددية .
في المقابل، كانت الطبعة السعودية من الإسلام تقوم على الفكر السلفي اللاسياسي، الذي يُعطي قيصر السعودي السلطة السياسية، ويخوِّل آل الشيخ وأتباعهم التصرُّف بما لله: السلطة الدينية وأحوال الآخرة، شريطة ألا يتدخلوا بشؤون الدنيا.
هذا الشرخ الإيديولوجي- السياسي بين الطرفين ظل نائماً عقوداً طويلة بفعل عاملين إثنين:
الأول، زواج المصلحة الذي أبرمه الإخوان والسعوديون غداة بروز حركة القومية العربية العلمانية واليسارية منذ مطلع الخمسينات بقيادة جمال عبد الناصر، الذي دفعهم إلى شن حرب مشتركة ضدها وهم يرفعون رايات الإسلام السياسي. وهكذا، وجد قادة الإخوان المصريون ملاذاً آمناً وخزينة مالية وفيرة لهم في المملكة، فيما اكتشفت فيهم هذه الأخيرة كنزاً أحسنت استخدامه في حربها العامة ضد القومية العربية العلمانية.
والثاني، نجاح الرياض في احتواء الإخوان المسلمين غداة هزيمة حرب 967، من خلال تحالفها مع الأنظمة الجديدة التي برزت في مصر (حسني مبارك) وسوريا (حافظ الأسد) وتونس (زين العابدين بن علي) والأردن (الملك حسين) التي جهدت لإبقاء حركات الإخوان داخل القفص.
“الأخوان المسلمون” لم يردّوا مباشرة حين انتقلت علاقتهم مع السعودية من التحالف إلى الاحتواء. لكن بعض اجنحتهم كانت تفعل ماهو أكثر بكثير من الرد: اختراق السلفية الوهابية نفسها.
حدث هذا أساساً في أفغانستان، حين قام القائد الإخواني البارز عبد الله عزام وبعده أيمن الظواهري بجذب المقاتلين السلفيين السعوديين، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، إلى إيديولوجيا سيد قطب الجهادية، الأمر الذي خلق أزمة شرعية كبرى في المملكة طيلة حقبة التسعينات أنحى فيها السعوديون باللائمة على “القطبيين والإخوانيين” كما أسموهم.
والآن، وبعدما بات واضحاً أن الربيع العربي كانت له قسمات إخوانية فاقعة في مصر وتونس والمغرب وسوريا، كان على القادة السعوديين مواجهة المقلب الآخر من التحدي الإخواني: الطبعة الليبرالية والديمقراطية المُفترضة من الإسلام. وهي، وان تكن تخاض على نحو غير مباشر، واضحة وضروس، وتجر الاسئلة تلو الاسئلة: هل انفجرت الصراعات الإيديولوجية بين الوهابية والإخوان؟ وهـــل تقف هـــذه الصراعات عند حدود مصر، أم تتعداها الى سائر “الاخــوان” فــي تونس والمغرب والاردن والسودان واليمن؟ وأي شكل قد تأخذ في سوريا، خصوصا أن المملكة هي الداعم الاكبر للمناهضين للنظام؟ هل تخوض السعودية المعركة في بلاد الشام على جبهتين معـــا: جبهـــة ضد النظام وجبهة ضــــد المعارضة “الاخوانيــة”؟ هل يكون ذلك عبر دعم السلفيين الجهاديين الخصم الابرز للطرفين أم تبحث عن حصان آخر داخل الجيش النظامي أم تكرس كل الدعم لجيش “وطني” جديد؟
السؤال الاهم: عندما تنتقل المملكة من حال الكمون الى حال الهجوم السياسي والديبلوماسي النشيط، كيف لها ان تحصن ساحتها الداخلية من رد فعل “الاخوان” واصدقائهم داخل الخليج وفي الاقليم والمنطقة؟ فهم ليسوا عزّلا بعد ولديهم تنظيم سري ومنتشر، ولديهم ايضا امكانات مادية وتحالفات سياسية بعضها معروف وبعضها الآخر مستور. وعلامَ يستقر الموقف الاميركي؟ هل يستمر في “مغازلة” الجماعة من تحت الطاولة وفوقها وتشجيعها على العناد لأغراض منها ما هو معلوم ومنها ما هو طي الكتمان؟
السعودية في معركتها هذه تكشف وجها جديدا من سياساتها المستجدة. ويبقى علينا انتظار رد “الاخوان” في الخليج وخارجــه على هذه السياسة.