لعبت الشائعات في ظل النظام السابق دورا دراميا في حياة العراقيين . فقد كانوا دائماً ضحيةً لها او فريسة سهلة لتمريرها وتلقي نتائجها . كما كانوا هم الوسيلة والهدف لها . ولعل الشعب العراقي هو اكثر شعوب الارض اهتماماً بالشائعات وتناقلاً لها واحتفالاً بها حيث تعقد جلسات شبه ( احتفالية) لتبادلها كما لو كانوا يتبادلون اشياء ثمينة وقيمة. لذلك اصبحت لها طقوس خاصة في ظل ازمة ثقة شاملة حيث الحوائط لها آذان وعيون وكاميرات وكاسيتات فالثقة معدومة بالصديق حتى يثبت العكس والثقة معدومة بالقريب حتى يثبت العكس، .العكس لا يمكن ان يثبت الا بعد تحر وتدقيق وتجارب طويلة. والشائعة بماهي عليه من إثارة وابهام اصبحت ظاهرة سحرية غامضة تجلب المتعة والسعادة عند متابعتها ومناقشتها وتحليل مفرداتها وتفكيك عناصرها على الرغم ما يعتور ذلك من مخاطر ومخاوف. ان الشائعات تزدهر سوقها عادة في ظل النظم الدكتاتورية التي تكمم الأفواه من ناحية و تمنع الصحافة الحرة وحرية التعبير من ناحية اخرى فلا يبقى امام الناس سوى استخدام الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم وهي الشائعة، هذه الوسيلة السرية التي يصعب الوصول الى مصدرها مع ان النظام السابق حاول كثيرا القيام بذلك وذهب نتيجة لذلك الكثير من الناس الأبرياء. والشائعة في العراق تستهدف السياسي بالدرجة الأولى حتى لو بدا من مقدماتها انها لا تستهدفه مباشرة لان الهدف النهائي هو السياسي او من له علاقة بالسياسة من قريب او بعيد . وكلما كان الشخص المستهدف مشهورا كان رواج الشائعة اسرع وتأثيرها اوقع ونتائجها مؤثرة. وتتحول الشائعة في كثير من الحالات الى حيوان خرافي لا يرحم يزحف ويطير ويعدو بين الناس بسرعة خاطفة ويمارس عليهم فعل التنويم المغناطيسي حيث يستقبلونه بكل ترحاب ويسلمونه الى اقرب صديق . وعادة ما يكون موضوع الشائعة مرتبطا بالأحداث القائمة التي تشغل بال المجتمع والرأي العام . وتعد الشائعة هي الوسيلة الأسهل في العالم حيث يتبادلها الناس بشكل شفاهي خلال لقاءاتهم اليومية. ان الشائعة هي خبر او قصة عن المشاهير او عن الأمور الساخنة تستهدف احداث صدمة لدى المتلقي فإذا صدقها تكون قد حققت هدفها واذا لم يصدقها تكون قد هزت القناعات الثابتة لديه . وكلما كانت الأرض خصبة ومهيئة كلما كان استقبالها للشائعة اكبر وتبنيها اسرع. ولأن النظم الدكتاتورية هي اكثر النظم السياسية التي تنتعش فيها الشائعات كما اسلفنا فانها لذاك بالضبط هيأت نفسها جيداً لاستقبالها وتنفيذها وبث شائعات مضادة لها لذلك انشأت اجهزة متخصصة داخل جهاز المخابرات لجمع الشائعات وتحليلها والرد عليها . وكان الرئيس المصري السابق انور السادات يتباهى بان لديه اجهزة تمتلك القدرة على نشر الشائعة على كل الساحة المصرية من اقصى جنوب الصعيد الى اقصى شمال الوادي خلال اقل من 24 ساعة. وقد استشعر النظام السابق بشكل مبكر الإهتمام الذي يوليه العراقيون للشائعات لذلك انشأ جهازاً خاصا لجمع الشائعات (بما فيها تلك الشائعات التي على شكل نكات ) وتحليلها والرد عليها . بل انه استقطب لهذا الغرض بعض اساتذة الجامعات البعثيين . ونتيجة لذلك نشبت بين النظام والجمهور (حرب شائعات غير معلنة) كان النظام يستخدم فيها كل الوسائل وعلى رأسها سلاح (النكتة) وهو سلاح خطير وسريع الإنتشار تقليدا لطريقة الشعب الذي كان يستخدم هذا السلاح . وقد اتسعت (حرب النكات) لتشمل الجميع . ففي حين طالت شائعات الناس ونكاتهم رأس النظام ورموز النظام من عزت الدوري الى خير الله طلفاح ومن عدي الى ساجدة فإن النكات التي كان يؤلفها جهاز مخابرات النظام طالت ايضاً الجميع . فمرة تتجه هذه النكات الى السخرية من الأكراد ومرة اخرى الى السخرية من ابناء الجنوب باعتبارهم (شروك) و (معدان) ومرة ثالثة للسخرية من ابناء عشائر الدليم ...الخ. كما ان اجهزة النظام من الحزب الى المخابرات كانت تستخدم الشائعات احياناً بمثابة بالونات اختبار . ففي سنوات الثمانينيات وخلال الحرب مع ايران كان النظام يطلق بين فترة واخرى شائعات حول سحب وجبة جديدة من الجيش الشعبي وما ان تكمل الشائعة دورتها حتى يسحب وجبة فعلا ويرسلها الى المحرقة او ان يطلق شائعة حول سحب وجبة من مواليد جديدة، وما ان تستقر الشائعة في الأذهان وتتم تهيئة الجو النفسي للناس الذين اخذت الحرب بخناقهم وسحقتهم سحقاً حتى يسحب الوجبة فعلاً وهكذا. واحياناً كان يطلق شائعات حول (وجود ضوء في نهاية النفق) كما تعودت اجهزة النظام في حينه ان تقول وذلك من اجل خلق جو من التفاؤل لدى الناس الذين ضاقت كل الآفاق امامهم وأسودت وتقطعت بهم سبل الخروج من أزمة الحصار. وإذا كانت الدول الدكتاتورية تنفرد بهذا الإهتمام الكبير بالشائعات فإن ذلك لا يعني ان الدول الديمقراطية المتقدمة لا تستخدم هذا السلاح ولكن الفرق هنا هو ان هذه الدول تستخدمه في الخارج . فلديها في الداخل ما يكفي من الصحف الصفراء او صحف الرصيف والتي يطلق عليها عادة صحف الفضائح او صحف النميمة حيث تستغل حرية الإعلام ولا تترك شاردة او واردة من اخبار المسؤولين وفضائحهم وتلاحقهم في حياتهم الشخصية والعائلية وتنبش ماضيهم وتبحث في دفاترهم العائلية وتنقب عن سجلاتهم المالية والغريبة ولا تدع اي شخص مشهور سواء أكان سياسياً أم نجماً سينمائياً ام لاعباً ام صناعياً ام مضارباً مالياً دون ان تطارده بجنودها السريين وتضيق عليه الخناق وتحيل حياته الى جحيم ما لم يكن مستقيماً وملتزماً بكل معايير النزاهة. ومعروفة حكاية الأميرة دايانا التي قضت نحبها خلال مطاردة جنود الصحافة الصفراء لها . وما زالت حكايتها تثير الشائعات برغم مرور عشر سنوات على رحيلها . بل ولا تزال تثار الشائعات حول اغتيال الرئيس الأميركي الراحل كندي برغم مرور اكثر من 45 عاماً على اغتياله. الدول الديمقراطية المتقدمة تستخدم الشائعات في الخارج على شكل اخبار او مقالات صحفية لإختيار سياساتها الحالية او لرسم ستراتيجياتها المستقبلية. اما بالنسبة للدول النامية او الدول التي ترغب في بناء نظام ديمقراطي كما هو حال العراق فإن المطلوب ليس الردود المتشنجة على الشائعات او المقالات التي تثير مواضيع خلافية بل التفنيد الهادئ وتبيان مواضع الخطأ في الشائعة ذلك ان بعض السياسيين من مختلف الجهات السياسية ما ان يواجه بإتهام حتى يبادر هو الأخر الى اطلاق سلسلة من الإتهامات والشتائم للجهة المقابلة بدلاً من ان يعتمد الشفافية والصراحة في كشف المستور لذلك نرى الجمهور العراقي في حيرة من امره بين جهات كلها تدعي العصمة والقداسة وتتشدق بأنها ليست فقط فوق مستوى الشبهات بل وفوق النقد وفوق القانون ايضاً. ان المطلوب من الجهات السياسية المختلفة المزيد من التواضع والمزيد من الإنفتاح على الناس وعدم ادعاء العصمة والقداسة فالعصمة للأنبياء و الأوصياء واعتماد مبدأ التعامل الهادئ مع الشائعات و الأخبار الغامضة ونشر الأخبار والتقارير الصريحة والحقيقية المدعومة بالأدلة والبراهين التي تنفي الإتهامات المذكورة . وبعكس ذلك وفي حالات التشنج والردود العصبية واطلاق الشتائم فإن ذلك يعني ان وراء الاكمة ما وراءها كما يقول المثل وانه لا يوجد دخان من دون نار.
أقرأ ايضاً
- ما هو الأثر الوضعي في أكل لقمة الحرام؟!
- أثر الزمان في تغير الاحكام القضائية
- العراق.. "أثر الفراشة" في إدارة الدولة