ابحث في الموقع

العصا الانتخابية

العصا الانتخابية
العصا الانتخابية
بقلم: القاضي كاظم عباس - نائب رئيس محكمة التمييز الاتحادية

اعتبر الفلاسفة ان اللحظة التي وضع الإنسان الآلة بيده وأستعملها هي اللحظة الفارقة التي نقلت بني ادم من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان الذي أنفرد عن بقية الحيوانات بأنه تعامل بإيجابية مع المواد التي تحيط به فصنع منها المنجزات الخلابة والحضارات العريقة.. وتبرز العصا وهي على الأعم الغالب خشبة شجرة بأنها من أولى الآلات التي إستخدامها البشر واحتلت حيزاً كبيراً في دراما حياته التراجيدية فكانت باكورة استعماله لها وسيلة للدفاع عن النفس من أعداء الجن والإنس له وفيما بعد استعملها لرعي حيوانته ولأن حمل العصا من سنن الأنبياء فكان نصيب أشهرها العصا التي بيد نبي الله موسى عليه السلام واعتبرت معجزته الخالدة وقد ابدع سبحانه وتعالى بوصف إستعمالها المتعدد بقوله (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ۝ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ۝ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى۝ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ۝ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى [سورة طه:17-21]،) وعصا موسى واجهت بالحجة الدامغة استبداد وديكتاتورية وطغيان وكفر وظلم فرعون وهوانه وضعفه مقابل تقوى وإيمان وصلاح وفضيلة موسى عليه السلام وقوته وحكمته إلى ان جاءت عصاه بالمعجزة الأبرز بشق البحر وهلاك فرعون وهذا ما أكده قوله تعالى ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾.

وفي عصرنا الحديث تعددت وظائف العصا فهناك العصا الدواء والأمل وهي عصا المعلم لتلاميذه الكسالى والمشاغبين وهو يلوح بها لهم لمستقبل مشرق من حيث لا يعلمون.

وهناك العصا الداء والألم التي طبعت بها أنظمة الحكم التي لا تعير لمواطنيها ادنى أنواع الحرية في حياتهم اليومية وهم يخشون ذلك الشرطي بحجم فيل ارعن المنتسب إلى احدى اجهزة الدولة البوليسية السرية في أنظمة حكم القائد الضرورة وهو يلوح بعصاه شارعاً بمسح كرامة كل من يصادفه في سيطرة او زقاق او طريق.

وهكذا كثر استعمال العصا في شتى المجالات وفي كافة العصور تارة للتلويح بالعقوبة وتارة بفرضها حتى جاء بالقول المأثور (العصا لمن عصى)

أما ان تدخل العصا في العملية الانتخابية بجمع الأصوات وتكون وسيلة لإظهار نجاح او إخفاق المرشحين فهذا هو العجب العجاب بعينه وما لا يقبله العقل والمنطق لو عرضت مثل هذه الفكرة قبل انصرام القرن العشرين. إلا ان العصا الانتخابية ومهامها فرضت نفسها في العملية الانتخابية وأضحت جزء من أهم الأمور اللوجستية في الكثير من الانتخابات التي تجري في الدول بعد.

الثورة غير المسبوقة في التكنولوجيا للعالم الرقمي 

وتعرف العصا الانتخابية بأنها أداة إلكترونية تُزوَّد بها اللجان أو موظفو الانتخابات، وتُستخدم لجمع النتائج الأولية من أجهزة الفرز أو من سجلات المراكز الانتخابية، ثم نقلها بشكل آمن إلى النظام المركزي ومن اهم ميزاتها أنها تختصر الوقت بدل من إرسال النتائج ورقيًا، وتساعد في إعلان النتائج الأولية خلال ساعات قليلة دون تدخل بشري.

واستفادت منها العملية الانتخابية في معظم البلدان التي تنتهج نهجاً ديمقراطيا في تداول السلطة والتي بوجودها تم زحزحة الفرز اليدوي لنتائج الإقتراع الى مراتب ادنى وتلاشى الطعن بتزوير الانتخابات بوجودها.

وفي إنتخابات الدورة السادسة لمجلس النواب العراقي التي جرت قبل أيام قليلة في العراق كان مصطلح العصا الانتخابية له وقع خاص في أذان العراقيين لان فيها جمعت أصواتهم التي ادلوا بها إلى المرشح الذي يرى فيه الكفاءة والصلاح وبها نقلت عبر الأثير إلى المركز الرئيسي لجمع أصوات جميع المرشحين.. وإذا كانت عصا موسى قد أهلكت ديكتاتورية واستبداد فرعون وقومه في البحر فان العصا الانتخابية في العراق قد دفنت الإستبداد والديكتاتورية في أعماق سحيقه إلى غير رجعه. وكان أعمال العصا الانتخابية ظهور النتائج النهائية للفائزين والخاسرين في الانتخابات التشريعية التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات ووضع العملية الانتخابية أوزارها وقيام المرشحين الذين لم يحالفهم الحظ بالفوز بالطعن أمام القضاء بنتائج الانتخابات ممثلاً باللجنة القضائية المختصة بنظر الطعون الإنتخابية والتي أبلت وتبلي بلاءً حسناً كما عهدناها سابقاً وحاضراً ومستقبلاً وحافظت على أصوات الناخبين بقرارات تسجل لها بأحرفٍ من ذهب. 

وفور انتهاء دور العصا الانتخابية بدأ دور الموؤسسة القضائية التي حصنت العملية الانتخابية في العراق من ألفها إلى يائها وحرصت على إجرائها وفقاً للدستور والقانون وكان مجلس القضاء الأعلى هو الفاعل الأبرز في حماية النظام الديمقراطي في العراق وديمومته والجميع يتذكر موقفه التأريخي المسؤول في 8 / 1 / 2025 بقراره ذائع الصيت بتمديد عمل مجلس المفوضين في المفوضية المستقلة للإنتخابات بعد ان تخلى أصحاب الشأن عن ذلك لأجندات ما أنزل الله بها من سلطان وقد أنقذ بهذا القرار البلد من الإنزلاق في مخاطر ومصائب جمة لها بداية وليست لها نهاية واستمرت المواقف الايجابية تترى للقضاء العراقي بشقيه العادي والدستوري كل من موقعه واختصاصه في حماية النظام الديمقراطي الدستوري والذي حجر الزاوية فيه التداول السلمي للسلطة.

وبهذا الصدد فان القول الفصل ونحن على اعتاب نهاية المارثون الانتخابي يكون للعصا القضائية ممثلةً باللجنة القضائية عند ممارسة دورها الدستوري والقانوني المتمثل بالبت بالطعون التي تنصب على قرار مجلس المفوضين المتعلقة بنتائج الانتخابات النهائية للمرشحين وبيان مدى مطابقتها للدستور والقانون ومن ثم المصادقة على النتائج النهائية للإنتخابات من قبل المحكمة الاتحادية العليا الموقرة برئاستها الحكيمة وفي نهاية المطاف تنبثق عن هذه الانتخابات السلطة التشريعية والتي يقع على عاتقها انتخاب السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية إبتداءً ومن ثم إعطاء الثقة فيما بعد لرئيس مجلس الوزراء المكلف وكابينته.

هذا التسلسل الزمني المحدد بمدد دستورية التقييد به والموضوعية يجب ان تكون سائدة وحتمية في هذه الفترة من الجميع اذ لا يمكن او السماح بتجاوز المدد الدستورية تحت اي ظرف او مبرر ومن اي جهة مهما بلغ نفوذها السياسي ويجب ان لا تحضر الخواطر عند اختيار أشخاص المناصب السيادية لأن العراق أكبر من اي أسم او عنوان وان نهاية العرس الانتخابي الذي أخرجه الشعب العراقي للعالم كله وبدون اي طعن بشفافية الانتخابات بشهادة الإعداء قبل الأصدقاء يجب ان تتناسب مع حجم ما قام العراقيون به وما قدموا من تضحيات جسام من اجل نظامهم الدستوري الديمقراطي وبخلاف ذلك فان القضاء العراقي بالمرصاد لكل حالة طمع او تسلق غير مشروع للسلطة التي قد تصدر من قبل الفرقاء السياسين فرداً او جماعةً.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!