مع اقتراب موعد الانتخابات وبدء العدّ التنازلي للاقتراع، اشتدّ الصراع بين المرشحين وأحزابهم، وبدأ المشهد السياسي العراقي يكشف عن أزمةٍ عميقة في الخطاب الانتخابي تُعبّر عن انهيارٍ واضح في مستوى الوعي السياسي، وفقدانٍ تام للرؤية الوطنية الجامعة.
الطائفية تعود من جديد
الأحزاب والحركات الشيعية عادت، كعادتها في كل موسم انتخابي، إلى عزف أسطوانة الطائفية المشروخة، محذّرةً من عودة حزب البعث، ومروّجةً لخطر استهداف (البيت الشيعي)، وكأن الحكم بات ملكًا خاصًا لطائفةٍ بعينها، وفي المقابل نجد الأحزاب السنية تتناحر فيما بينها، إلى حدّ استعمال أوصافٍ جارحة ومهينة بين المرشحين، بينما يلتزم الأكراد الصمت والانكفاء داخل الإقليم الذي يشهد بدوره انسدادًا سياسيًا واقتصاديًا بعد فشل تشكيل حكومة جديدة على الرغم من مرور وقتٍ طويل على الانتخابات الإقليم البرلمانية.
خطاب بلا مضمون وواقع بلا أمل
المتابع بدقة للخطاب الانتخابي الحالي يدرك سريعًا أنه خطاب فقير وهشّ، بعيد عن الهمّ الوطني العام، ومحصور في حدود المصالح الطائفية والحزبية والعرقية.
فالخطب والشعارات التي تُطلقها الكتل السياسية تعاني من تفاهة وسطحية واضحة، وتكشف عن بؤس العقل السياسي العراقي الذي ما زال غارقًا في مستنقع الخرافات والعُقد القبلية والطائفية، في وقتٍ يشهد فيه العالم تحولاتٍ تاريخية كبرى.
غياب البرامج والرؤى الوطنية
لا تكاد تجد حزبًا أو مرشحًا يقدم برنامجًا انتخابيًا حقيقيًا ومدروسًا لمعالجة التحديات التي تواجه العراق، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية، فالنظام السياسي العراقي اليوم يمرّ بمرحلة تحدٍ وجودي، ويقف على أعتاب تغييرات كبيرة، إلا أن القوى السياسية تبدو غافلة عن خطورة المرحلة، منشغلة بتقاسم النفوذ لا ببناء الدولة.
المال والسلطة يفسدان التنافس
من الظواهر المقلقة أيضًا الاستغلال المفرط للمال العام والمناصب الحكومية في الحملات الانتخابية، إذ تُسخّر موارد الدولة وإمكاناتها لخدمة أحزابٍ معينة على حساب العدالة والمنافسة المشروعة، فالدعايات الضخمة والصور الكبيرة تملأ الشوارع من دون إن يعرف أحد مصادر تلك الأموال وهل هي مشروعة أم لا؟ فحجم الإنفاق الانتخابي الهائل يجعلنا نتساءل لماذا كل هذا الصرف إذا كانت الغاية هي خدمة البلاد والعباد؟ أم أن هناك مكسب آخر وراء ذلك، وهو البحث عن الامتيازات والمناصب والاحتماء والاستقواء بالسلطة والمال العام، وفي مقابل هذا البذخ نجد عدم اكتراث المواطن للانتخابات؛ إذ نرى أن الحضور في المؤتمرات الانتخابية بائس وهزيل ومقتصر في معظمه على المنتفعين وزبانية السطلة والباحثين عن المصالح الشخصية، فالمواطن العراقي قد وصل إلى قناعة أن الانتخابات ليست سوى مسرحية لتقاسم النفوذ والغنائم بين أفراد الطبقة المتسلطة على الحكم ، ناهيك عن خيار المقاطعة الذي ترى فيه نسبة كبيرة من الشعب أنه الخيار الأفضل لمعاقبة الأحزاب الحاكمة وسحب الغطاء الشرعي منها .
كما تعاني العملية الانتخابية من فوضى في الاستبعاد والإقصاء، في ظل اتهامات بتدخلات سياسية في عمل المفوضية العليا، ما يثير الشكوك حول نزاهة الانتخابات برمّتها، نتيجة لغياب نظام قانوني انتخابي رصين وعادل وشفاف.
نظامٌ يلفظ أنفاسه الأخيرة
جميع هذه المظاهر تعكس إفلاسًا سياسيًا عميقًا وصلت إليه القوى المهيمنة منذ عام 2003 وحتى اليوم، فالنظام الذي تأسس بعد سقوط النظام السابق يبدو وكأنه وُلد ميتًا، ولم تنجح محاولات إنعاشه في السنوات الماضية، على الرغم من أنه كاد ينهار تمامًا في أزمتي عام (2014 و2019) لكن هذه المرة تبدو فرضية التغيير أقرب إلى الضرورة الحتمية، خاصة بعد المتغيرات الإقليمية والدولية الأخيرة، التي تفرض على العراق إعادة التفكير في مساره السياسي وموقعه من العالم.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، يبرز سؤال مشروع:
هل يمتلك المرشحون الحاليون القدرة على قيادة العراق نحو مستقبلٍ أفضل؟
الجواب، على ما يبدو، لا يحمل كثيرًا من التفاؤل، فالأحزاب التي حكمت البلاد وأغرقتها في الفساد والدماء والتبعية، تدرك جيدًا أنها فقدت شرعيتها الشعبية والسياسية، ومع ذلك ما تزال ترفض الاعتراف بفشلها.
إنّ العراق اليوم بحاجةٍ إلى مشروع وطني جديد يعلو فوق الطوائف والقوميات، ويعيد للدولة هيبتها، وللناس ثقتهم بأن التغيير ممكن... وأن الوطن ليس إرثًا لطائفة، بل أمانة في أعناق الجميع.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!