د. عباس علي
في التاسع من أيلول 2025، وبعلم واشنطن الكامل، شنّت إسرائيل هجوماً على قطر بذريعة استهداف قادة حركة “حماس”.
وكانت الرسالة إلى العالم العربي واضحة وصارخة: حتى لو أخضعتم مصالحكم الوطنية لمصالحنا، فلن تكونوا بمنأى عن غضبنا. ورغم وضوح الرسالة، لم يكلف أي من الحكام العرب نفسه عناء اتخاذ خطوة عملية ضد هذا العدوان الإسرائيلي السافر.
هل سيوقظ الهجوم العرب على الخطر الوجودي الذي يواجهونه؟ على الأرجح لا. هل سيجعل الحكام العرب أكثر خضوعاً لواشنطن وتل أبيب؟ بالتأكيد. وهل يقود هذا الخضوع إلى مستقبل اقتصادي وسياسي أفضل للشعوب العربية؟ كلا، بل من المرجح أن يقود إلى مزيد من البؤس والفوضى.
هذا ليس مجرد افتراض، بل هو تقييم واقعي للمأزق العربي. فالعرب يواجهون عدواً لا يتردد في اتخاذ إجراءات لا يمكن تخيلها لإذلالهم وسفك دمائهم متى شاء. وقد صرّح نتنياهو ورفاقه مراراً بذلك، فيما تمنحه واشنطن حرية مطلقة في اتخاذ القرارات المتعلقة بأحداث المنطقة، من غزو دول مجاورة إلى شن الحروب. ورغم أن الرئيس ترامب يتسم بعدم التنبؤ في سياساته وتوجهاته، فإنه عندما يتعلق الأمر بإسرائيل ونتنياهو، يصغي له ولستيف ويتكوف، مبعوثه للشرق الأوسط.
لسنوات، حاولت واشنطن أن تقدم نفسها رسمياً كوسيط محايد في قضايا الشرق الأوسط. وفي عهدي بايدن وأوباما، كانت تدرك أن نتنياهو منفلت من السيطرة، ونجحت أحياناً في تقييده. أما في ولاية ترامب الثانية، فقد أصبح نتنياهو السائق الفعلي لسياسة واشنطن في الشرق الأوسط. وباستثناء تزويد إسرائيل بالسلاح، يقتصر دور واشنطن على تبرير العدوان الإسرائيلي وإضفاء الشرعية عليه.
خذوا مثالاً الهجوم على قطر. فقد ناقش نتنياهو الأمر مسبقاً مع ستيف ويتكوف، رغم أن ترامب ادّعى أن الجيش الأمريكي هو من أبلغه بالهجوم. وأكد ترامب قائلاً: “هذا قرار اتخذه رئيس الوزراء نتنياهو، وليس قراراً اتخذته أنا”. غير أن خبراء السياسة الخارجية، كما أوردت صحيفة نيويورك تايمز (9 أيلول 2025)، شككوا في ذلك، مؤكدين أن “التنسيق كان أكبر بكثير مما يريد البيت الأبيض الاعتراف به حالياً”.
ما يعزز فكرة أن واشنطن تلعب دور الحامي لإسرائيل، أن قطر حليف وثيق لها، وترتبط معها باتفاقية دفاع، وتستضيف أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط. وهذا يثير تساؤلات: لماذا فشلت واشنطن في حماية محميتها؟ ولماذا لم تعترض أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة المقاتلات والصواريخ الإسرائيلية؟ ولماذا لم يشارك الجيش الأمريكي في قطر المعلومات مع الحكومة القطرية؟
والأكثر إثارة أن قطر، التي اشترت أسلحة أمريكية متطورة للغاية، لم تستخدمها لحماية أراضيها وسيادتها. فهل خافت الحكومة من رد الفعل الإسرائيلي؟ أم أن واشنطن حذرت قطر من تفعيل منظومتها الدفاعية؟ أسئلة لن يجيب عنها لا قطر ولا واشنطن.
لقد أنفقت قطر وبقية دول الخليج الغنية بالنفط تريليونات الدولارات في الولايات المتحدة، واشترت بمليارات الدولارات أنظمة دفاع متطورة. لكنها لم توفر الحماية من الهجمات الخارجية ولا الإحساس بالأمن. بل عمّقت هذه الأنظمة ومشاريع الاستثمار تبعية الدول العربية للأجنبي، مما قوض مستقبل شعوبها.
تحت إدارة واشنطن الحالية، تفاقم القتل المستمر للفلسطينيين وتدمير الحياة والممتلكات في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها بوتيرة لم تشهدها المنطقة منذ عقود. ويثبت الهجوم على قطر أن أعداء العرب على استعداد لفعل كل ما يمكن لإذلالهم، حتى لو استسلموا كلياً. وفي النهاية، لا يرون في العرب سوى احتقار، وفي نظرهم، “العربي الجيد هو العربي الميت”.
وقد عبّر نتنياهو عن ذلك بوضوح حين قال: “أقول لقطر ولكل دولة تؤوي إرهابيين: إما أن تطردوهم أو تقدموهم للعدالة، لأننا إن لم تفعلوا، فسوف نفعل نحن”. بالنسبة لنتنياهو ومن يشاركه التفكير، فإن العرب الذين يرفضون أن يُقتلوا أو يُعذبوا هم “إرهابيون”، وحتى من ينادي بالسلام واحترام الكرامة وحقوق الإنسان يُوصم بالتطرف. فلا فرق عنده بين تقدميين أو محافظين، مسيحيين أو مسلمين؛ فالجميع تهديد.
ينظر نتنياهو ونخب واشنطن السياسية إلى الشرق الأوسط كحقل تجارب لاختبار حدود أيديولوجيتهم الفاشية، القائمة على تفوق جماعة على أخرى. هذه العقيدة تنكر وجود الفلسطينيين، بل وكل العرب. وهي التي تمنح الشرعية للقتل الجماعي والإبادة في غزة.
إعلان نتنياهو الأخير بأن “لن تكون هناك دولة فلسطينية” لم يأتِ من فراغ. فقد كرر السفير مايك هاكابي مراراً أن إدارة ترامب تعارض إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة. بل إن وزارة الخارجية أصدرت توجيهات تفيد بأن الدعوة لإقامة دولة فلسطينية “تقوض مصالح الأمن القومي الأمريكي”، وأن التركيز يجب أن ينصب على “تأمين الإفراج الفوري وغير المشروط عن رهائن 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023… وتحقيق وقف لإطلاق النار يكون مقبولاً لإسرائيل”.
في رؤيته للعالم، لا يعبأ نتنياهو بالقانون الدولي ولا بالأخلاق. تحركه أيديولوجية تضع القوة الغاشمة في المقدمة، وتجعل تفوق الأهداف الإسرائيلية أولوية مطلقة. رؤيته مشكّلة من خليط بين أيديولوجيا تفوق وعجرفة، وهو ما يفسر جرأته وسلوكه المتهور في غزو دول أخرى أو الاستمرار في إشعال الحروب.
وكالعادة، اكتفى الحكام العرب بالتنديد بالهجوم على قطر. ورغم امتلاكهم خيارات كثيرة لحفظ كرامتهم والدفاع عن شعوبهم (مثل قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول المعتدية، أو مقاطعة من يدعمها ويزودها بالأسلحة)، فإنهم اكتفوا بمطالبة واشنطن بإعادة النظر في سياساتها، وأبدوا استعدادهم لشراء مزيد من الأسلحة، وسمحوا بإنشاء قواعد عسكرية أمريكية إضافية. فهل الحكام العرب مستعدون لمنصة موحدة لمواجهة الحرب على شعوبهم؟ يبدو ذلك مستحيلاً ما دام العرب محرومين من الحرية والديمقراطية.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!