- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء السابع

بقلم: نزار حيدر
{يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ}.
قد يسأَلُ سائِلٌ؛ لماذا لم يشترِط نبيَّ الله يُوسُف (ع) إِعادة الإِعتبار لنفسهِ يومَ أَن بعثَ الملكُ الخادِمَ ليسأَلهُ وهو في السِّجن؟! فلقد رأَينا نبيَّ الله (ع) بادرَ فَوراً لعرضِ خارِطةِ الطَّريق لرسُولِ الملكِ من دُونِ أَن ينتظِرَ ثمناً [تبرِئتهِ].
{يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَٰتٍۢ سِمَانٍۢ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضْرٍۢ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٍۢ لَّعَلِّىٓ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
أَلم يكُن هذا وقتٌ أَنسب لانتزاعِ الحقيقةِ من السُّلطةِ؟؟ إِذ كانت بأَمسِّ الحاجةِ لتفسيرهِ رؤُيا الملكِ خاصَّةً بعد الفشَل الذَّريع الذي مُنِيَ بهِ [فُقهاء ومُفسِّرُوا أَحلام البِلاط]؟!.
الجُوابُ؛ لو كانَ يوسُف (ع) قد فعلَ ذلكَ في هذا الوقتِ بالذَّات لم يكُن من المُحسنينَ أَبداً ولم يكُن صدِّيقاً، لأَنَّهُ كانَ يبدو وكأَنَّهُ ينتقِمُ لنفسهِ مُستغِلّاً ظرفاً خطيراً توشِكُ الدَّولة والنَّاس أَن يمرُّوا بهِ بسببِ القحطِ الذي يضرِب البلاد، ولذلكَ فهوَ (ع) شرحَ تفسيرهُ للرُّؤيا بكُلِّ صدقٍ وإِخلاصٍ وحرصٍ وإِنسانيَّةٍ ليُساعدَ في إِنقاذِ النَّاسِ من البلاءِ الوشيكِ، وبذلكَ أَثبتَ مصداقيَّتهُ أَمام البِلاط الذي كانَ ينتظِرُ تفسيراً حصيفاً عقلانيّاً وعمليّاً على أَحرِّ من الجَمرِ، كما أَثبتَ للجميعِ بأَنَّ غرضهِ من طلبِ كشفِ الحقيقةِ فيما بعدُ ليسَ للإِنتقامِ والإِبتزازِ وإِنَّما لخدمةِ الحقيقةِ فحَسب، وإِلَّا لكانَ ساومهُم وهو في السِّجنِ في وقتِ شدَّتهِم!.
ليسَ من طبيعةِ المُحسنينَ اللُّجُوءَ لطُرُقِ الإِبتزازِ عندما يُريدونَ الدِّفاعَ عن أَنفُسهِم ضدَّ التُّهَمِ! وليسَ من أَخلاقيَّاتِهِم توظيفَ مُعاناةِ النَّاسِ أَو إِستغلالِ الأَزَماتِ للضَّغطِ لتبرِئةِ أَنفسهِم أَو انتزاعِ حقُوقهِم، أَبداً.
فهذا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) يُقدِّمُ أَفضل إِستشاراتهِ للخُلفاءِ في ساعاتِ المِحنةِ والبلاءِ ولَو كانَ غيرهُ لدفعهُم إِلى الهلاكِ إِنتقاماً لحقٍّ اغتصبُوهُ وتُراثٍ نهبُوهُ.
فقد شاورَهُ الخليفة الثَّاني في الخروجِ إِلى غزوِ الرُّومِ فكانَ جوابهُ كما يشرحهُ (ع) {وقَدْ تَوَكَّلَ اللَّه لأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ وسَتْرِ الْعَوْرَةِ، والَّذِي نَصَرَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ ومَنَعَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ.
إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ لَا تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ، لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْه فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً واحْفِزْ مَعَه أَهْلَ الْبَلَاءِ والنَّصِيحَةِ فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّه فَذَاكَ مَا تُحِبُّ وإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ ومَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ}.
كذلكَ عندما استنصحَهُ الخليفة الثَّالِث في أَحداثِ الفتنةِ، قدَّمَ لهُ أَفضلَ الرَّأي وأَحسنَ الحِكمةَ في المَوقفِ لَولا أَنَّهُ كانَ تحتَ تأثيرِ البِطانةِ الفاسِدةِ.
يقُولُ أَمِيرُ المُؤمنينَ (ع) مُخاطِباً عُثمان في جُملةِ كلامٍ لهُ {فَاللَّه اللَّه فِي نَفْسِكَ فَإِنَّكَ واللَّه مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى ولَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ وإِنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وإِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّه عِنْدَ اللَّه إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وهَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً، وإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّه إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وضُلَّ بِه فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، وإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (ص) يَقُولُ «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْجَائِرِ ولَيْسَ مَعَه نَصِيرٌ ولَا عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا» وإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّه أَلَّا تَكُونَ إِمَامَ هَذِه الأُمَّةِ الْمَقْتُولَ فَإِنَّه كَانَ يُقَالُ؛ يُقْتَلُ فِي هَذِه الأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ والْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ويَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا ويَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا فَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً ويَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً فَلَا تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ السِّنِّ وتَقَضِّي الْعُمُرِ.
فَقَالَ لَه عُثْمَانُ [كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ] فَقَالَ (ع) مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا أَجَلَ فِيه ومَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْه}.
أَمَّا النَّوعُ الثَّاني فهو الظُّلم العام الذي يتعرَّض لهُ صاحبُ الرِّسالة، وهذا النَّوعُ من الظُّلمِ كذلكَ يرى نفسهُ أَن يصبِرَ لتحقيقِ المصلحةِ العُليا للأُمَّةِ قد يكونُ عجزاً بسببِ خُذلانِ الأَغلبيَّة ولكن ليسَ خَوفاً أَو جُبناً شخصيّاً أَبداً.
يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {أَمَا واللَّه لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وإِنَّه لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه.
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً}.
أَمَّا الظُّلمُ الخاص فأَغلب الظَّن فإِنَّ صاحِب الرِّسالة يصبرُ عليهِ لأَنَّ صِدقهُ معَ الله ومعَ نفسهِ يدفعهُ دائِماً لتقديمِ المصالحِ العُليا على المصالحِ الخاصَّةِ.
يشرحُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) ذلكَ بقَولهِ {لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي ووَ اللَّه لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ}.
خاصَّةً إِذا كانَ في الأُمَّةِ مَن يسعى لتحشيدِ العامَّةِ ضدَّهُ لتخريبِ مشرُوعِ [الدَّولة] ولتحقيقِ أَغراضٍ مُدمِّرةٍ تضرُّ بالرِّسالةِ والأُمَّةِ معاً، وعندما لا يجدُ الوقتَ المُناسب لذلكَ.
يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ؟! أَحِينَ أَعْجِزُ عَنِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ، أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْه فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَ}.
وذلكَ هوَ أَعظمُ البلاءِ الذي يحتاجُ إِلى أَعظمِ الصَّبرِ.
لم يتعرَّض لهُ إِلَّا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) ولم يصبِر عليهِ إِلَّا أَمِيرُ المُؤمِنينَ (ع).
أقرأ ايضاً
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثالث والعشرون
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثاني والعشرون
- منظمة التجارة العالمية.. توجه العراق نحو الليبرالية الجديدة - الجزء السادس