اضطر محمد حسين (54 سنة) إلى بيع منزله الكائن في حي الرئاسة شرقي العاصمة بغداد صيف 2023، بعد معاناته من ضجيج وأدخنة مولدة الكهرباء الديزل المجاورة لسور منزله الخارجي الذي أنهار جراء الإهتزازات الناتجة عن عملها المستمر وهي تمد منازل الحي بالكهرباء مقابل أجور شهرية.
انتقل محمد، إلى منزل آخر جديد اشتراه في منطقة الدورة جنوبي العاصمة، دون تقديم شكوى ضد صاحب المولدة، لأنه كما يقول، واثق من أن أطرافاً عشائرية ستتدخل كما يحدث في قضايا مماثلة أو يتقدم عليه المشتكى عليه بخطوات معتمداً على علاقاته برجال الأمن أو الجماعات المسلحة، ولن يحصل على شيء “غير العتب وقطع الكهرباء عن منزله”، يقول وهو يبتسم.
ثم يضيف وهو يحرك يديه يميناً ويساراً: “بل قد يحملونني مسؤولية انهيار جدار بيتي والتأثير على مسار خطوط الكهرباء، ليتوجب علي تسديد مبلغ من المال إليهم”.
طوال ثلاث سنوات عانى محمد من التلوث السمعي الذي سببته مولدة الكهرباء وآثار انبعاثاتها على صحة العائلة، ناهيك عن برك المياه المختلطة بالديزل التي تحدثها عملية تبريد محركها في الزقاق، وكلها كانت أسباباً كي يبحث عن مكان آخر للعيش في العاصمة التي تنقطع الكهرباء الوطنية عن أحيائها أكثر من 12 ساعة يومياً على الرغم من ان الحكومات المتعاقبة صرفت 80 مليار دولار لتأمينها خلال عقدين بحسب خبراء.
معاناة محمد، هي ذاتها معاناة عشرات الآلاف من سكان المنازل المجاورة لـ 14 ألف مولدة كهرباء أهلية تعمل على الديزل في بغداد، و49 ألف مولدة تعمل بالوقود الاحفوري في عموم محافظات العراق.
ولجأ العراقيون الى المولدات الكهربائية منذ نحو ثلاثة عقود لتأمين ساعات اضافية من الكهرباء، كبديل وحيد لسد العجز المتزايد في التجهيز، بعد تدمير البنى التحتية وشبكات الطاقة اثر حرب الخليج الثانية، ومع تقادم عمر المحطات الكهرو-مائية فضلاً عن التزايد السكاني والتوسع في استخدام الأجهزة الكهربائية وعلى رأسها المكيفات.
وفشلت الحكومات المتعاقبة، في معالجة المشكلة رغم انشاء محطات انتاجية جديدة. واستمر العجز نتيجة تضاعف الاستهلاك وفشل بعض المشاريع وتردي شبكات النقل، ما يضطر السكان وأصحاب الأعمال الى استخدام المولدات الأهلية لسد النقص.
لكن عوادم هذه المولدات تسهم وبنحو كبير في التلوث البيئي وتهديد صحة السكان في المواقع القريبة، بحسب متخصصين، لاسيما أن ارتفاع أسعار الديزل (الكازوايل) يدفع أصحاب بعض المولدات الى استخدام النفط الأسود ما يضاعف نسبة التلوث وبالتالي المخاطر الصحية.
يضاف الى ذلك استهلاك كميات كبيرة من المياه لتبريد محرّكات المولدات، ناهيك عن ما تلفظه من زيوت، الى جانب الأخطار التي تنجم عن ملايين الأمتار من الروابط الكهربائية العشوائية بين محطات التوليد والمنازل والمتاجر.
حاجة مستمرة
يشير تقرير لوكالة الطاقة الدولية/2019، إلى أن حاجة العراق للكهرباء تبلغ 40 ألف ميغاواط لتأمين احتياجاته عدا الصناعية، بينما تُقدر قدرته الإنتاجية بنحو 32 ألف ميغاواط، وهو غير قادر على توليد سوى نصفها، وذلك بسبب شبكات النقل غير الفعالة التي يمتلكها.
ويعزو مسؤولون عراقيون جزءاً من تراجع امدادات الكهرباء، خلال بعض الفترات، إلى توقف ضخ الغاز الإيراني المستورد والذي يشغل محطات تنتج 8 آلاف ميغاواط، أي بحدود ثلث انتاج محطات الكهرباء الوطنية، لكنهم في العادة يتجنبون الحديث عن الأسباب الأخرى وعلى رأسها الفساد الذي تسبب في هدر مليارات الدولارات في مشاريع غير كفوءة.
أدى هذا العجز الى بقاء سوق المولدات الأهلية نشطاً، رغم أن غالبيتها قديمة وتصدر محركاتها المتهالكة دخاناً أسوداً (دقائق الكربون) إضافة إلى الضوضاء العالية، بسبب عدم التزام الكثير من أصحابها باستخدام ما يعرف بكاتم صوت المحرك.
والى جانب ما تحمله تلك المولدات من مضار بيئية وصحية، فانها تُحمل المواطن العراقي كلف مالية شهرية كأجور للقاء تلك الخدمة، تتراوح بين 40 الى 60 الف دينار في المتوسط، وهي تمثل بالنتيجة خسائر اقتصادية.
وبحسب مسح أجراه الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط، وأعلنت نتائجه في آذار 2023، فإن العدد الإجمالي للمولدات الأهلية في عموم البلاد بلغ 48533 مولدة، وان “اجمالي الايرادات المتحققة بلغت (3,479) مليار دينار عراقي شهريا (ما يعادل 2.300 مليون دولار امريكي) توزعت داخل فترة الذروة بمقدار (2,105) مليار دينار(1,385 مليون دولار) اما خارج فترة الذروة كانت بمقدار (1,374) مليار دينار (900 الف دولار).
وهنالك من يشكك في هذه الأرقام معتقداً بأن إيرادات المولدات تتجاوز ذلك، ولا سيما أن سكان العراق باتوا يتخطون حاجز الأربعين مليون نسمة، وكل الوحدات السكنية والمشاريع الصغيرة من متاجر وورش ومطاعم وغيرها تعتمد على المولدات.
ومع وجود 6 ملايين و700 الف مشترك في خطوط المولدات الأهلية، بحسب الارقام الرسمية، فإن دفع كل مشترك منهم شهريا لمبلغ 30 الف دينار فقط- وهو الرقم الأدنى لأي اشتراك- يعني تجاوز المبالغ المدفوعة للمولدات الـ 200 مليار دينار شهرياً.
وفي كل الأحوال تظل احصائيات نفقات المواطنين المسجلة على الكهرباء، مؤشراً على أن الحصة الأكبر من ايرادات بيع الكهرباء في العراق تذهب الى المولدات الأهلية بدلاً من وزارة الكهرباء. إذ يبلغ سعر الأمبير الواحد من مولدات الكهرباء الأهلية المدعوم وقودها من الدولة 10 ألف دينار (7,60 دولار) للإشتراك العادي (لساعات محدودة في اليوم) و 15-25 الف دينار (11,45 إلى 19,08 دولار) لما يسمى بالأمبير الذهبي (يتمتع مشتركوه بتيار كهربائي متواصل لمدة 24 ساعة).
وفي تصريح صحفي لوكيل وزارة التخطيط للشؤون الفنية ماهر حماد جوهان، ادلى به في 2023، أشار الى ان الجباية الحكومية لأجور الكهرباء، لا توفر سوى 6% مما تنفقه الدولة سنوياً على الطاقة الكهربائية، مبرراً عدم امتلاك وزارة الكهرباء لعائدات تمكنها من تحسين خدمة الطاقة.
ويقول الناشط المدني معتز ماجد، أن أعداد المولدات الأهلية أكبر بكثير من الرقم الذي تقدره الجهات الرسمية “ربما يشمل هذا الرقم (49 الف) المولدات المسجلة والتي تأخذ حصص وقود شهرية من دائرة المشتقات النفطية”.
ويتابع :”لكن في الحقيقة فان كل مشروع صناعي أو زراعي أو متعلق بالثروة الحيوانية، حتى لو كان صغيرا، مزود بمولدة كهرباء ولا يمكنه الاستغاء عنها”.
ويضرب ماجد مثالاً على ذلك، بالقول ان حقول تربية فروج اللحم، مخازن التجميد والتبريد، معامل العلف، مفاقس البيض، مجازر الدجاج، المعامل الأخرى الإنتاجية، محطات المياه، وغيرها”، كلها تمتلك المولدات الكهربائية الخاصة بها.
لذلك يرجح أن تصل أعدادها الى 100 ألف مولدة، فضلاً عن مولدات الكهرباء الصغيرة العاملة بالبنزين، التي يقول بأنها منتشرة بنحو كبير، وتسهم جميعها بالتلوث البيئي، فضلا عن ما يفرضه تشغيلها من تكاليف مالية.
ضرر بيئي بالغ
يقول مدير قسم مراقبة نوعية الهواء في وزارة البيئة المهندس علي جابر، ان المولدات الأهلية “تضر بنحو كبير بالبيئة، فبدلاً من أن تكون الانبعاثات صادرة من مكان واحد وهي محطات الكهرباء الكبيرة، باتت تنتشر على مساحات أكبر وفي داخل المدن”.
وينبه جابر، الى ان استنشاق الهواء الملوث يشكل تهديدا لصحة الانسان على المديات القصيرة والمتوسطة والبعيدة، مشيرا الى أن التزايد الملاحظ في “الأمراض السرطانية والأمراض المرتبطة بالجهاز التنفسي ناتج عن التلوث”.
ويشير الى ان التخلص من هذا التلوث “يتطلب إمكانات وجهود ودراسات مفصلة غير متاحة في الوقت الراهن”.
وسط الأدخنة التي تحاصر المكان، والضوضاء التي يعج بها، كان كرار عباس (39 سنة) العامل في مولدة كهرباء وسط العاصمة بغداد، منشغلاً بفصل التيار الكهربائي عن أحد المواطنين الذي تأخر في سداد الأجور. قام بذلك ثم قلب القوائم الأخرى المتأخر سدادها، وقال: “أنا أيضاً لدي عائلة، وأعرف جيدا ما تسببه المولدة من مشاكل للجيران، لكن لاتوجد حلول لدينا، هذا واقع حال البلاد منذ أكثر من ثلاثين سنة”.
ويواجه كرار باستمرار مواطنين غاضبين من مخلفات المولدة، يأتون إلى موقع عملها ويتشاجرون معه، خصوصا الذين يعانون أو أحد أفراد أسرهم من الحساسية أو ممن يشكون من تحول مياه المولدة الى برك في الزقاق.
ويضيف: “اتفهم جيدا معاناتهم، لكني أقف عاجزا عن فعل شيء، أقول لهم أن الحل الوحيد هو إطفاء المولدة وعدم حصولهم بالمقابل على الكهرباء، فيسكتون حينها ويمضون في سبيلهم”.
المركز العالمي للخدمات الاجتماعية، وهي من منظمات المجتمع المدني، حذرت في بيان لها صدر في مطلع عام 2024، من أن 45% من سكان العراق معرضون للإصابة بالأمراض بسبب تلوث الهواء بالانبعاثات الناجمة من مولدات الكهرباء: ”وان من المرجح أن تتفاقم حالات الاصابات والتلوث البيئي في السنوات القادمة بسبب رداءة بعض المولدات وعدم مطابقتها للمواصفات الفنية والبيئية”.
وجاء في البيان، أن مولدات الكهرباء وبمختلف أحجامها تنتشر في الأماكن العامة، وعلى الأرصفة وفي الأحياء السكنية وفوق أسطح المنازل والمؤسسات والمعامل ودور العبادة “وهي تنفث الادخنة الخطرة طوال 24 ساعة في اليوم”.
ونبه البيان إلى أن انبعاثات المولدات تلوث الهواء بأكثر من 40 مادة سامة بما في ذلك العديد من “المواد المسببة للسرطان أو المشتبه بتسببها بالمرض”، وأن مثل هذه الملوثات قد تؤدي الى زيادة أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب والأوعية الدموية.
وتذكر المنظمة أن انبعاثات المولدات تسبب في حدوث الأمطار الحمضية التي تلحق الضرر بالنبات وتسمم المسطحات المائية، منبهة الى ان “مولدات الديزل (غالبية المولدات في البلاد) تولد انبعاثات أكبر تأثيرا على المناخ من محطة توليد الطاقة العاملة بالغاز الطبيعي”.
ودعت المنظمة في بيانها إلى مبادرة وطنية لدعم الطاقة وتقليل الانبعاثات، وضرورة الزام أصحاب المولدات بوضع “فلاتر منقية للكاربون، وعدم استخدام النفط الأسود لما يسببه من كوارث بيئية على المجتمع”.
تلوث وهدر للمياه
في ظل أزمة مائية يعيشها العراق جراء عوامل مناخية وسياسية - إقليمية مثل حجز المياه في السدود التركية والإيرانية والإدارة غير المستدامة داخلياً، تستهلك مولدات الكهرباء الديزل كميات كبيرة من المياه العذبة.
أجرت معدة التحقيق، إحصائية تتعلق بإستخدام المولدات للمياه، شملت 15 مولدة في مختلف مناطق العاصمة بغداد، وتوصلت إلى أن الواحدة منها تستهلك في فصل الصيف 4000 لتراً من المياه يومياً، وبما أن مجموع المولدات في العراق يبلغ 49 ألف مولدة مسجلة، فهذا يعني بان مجموع الاستهلاك اليومي للمياه يبلغ 196 مليون لتر من المياه العذبة.
وترتفع النسبة شهرياً لتصل إلى 5,880,000 مليون لتر، وهي كمية كبيرة تؤخذ في الأساس من حصص المواطنين، لأن المولدات هذه تستخدم مياه الإسالة القادمة من محطات التنقية، ثم تطرحها ملوثة بالزيوت في غالب الأحيان دون أية معالجة ويصل قسم كبير منها لمجريي نهري دجلة والفرات.
الناشط المدني سلام غازي، يعتقد بأن أول إجراء ينبغي اتخاذه من قبل السلطات، هو إلزام أصحاب مولدات الكهرباء بإستخدام مياه غير معالجة في المحطات “خصوصا أن عمل المولدات مستمر منذ عقود، وقد يستمر لعقود مقبلة كذلك!”.
ويضيف:”مثلما يشتري أصحاب المولدات الوقود، فان عليهم شراء الماء بواسطة صهاريج على أن لاتكون منقاة في المحطات، لأنهم بالأساس يديرون مشاريع ربحية، وليست خدمة عامة مجانية، وبذلك فهم لن يقوموا بهدرها، بل سيجدون طرقاً لضمان تكرار استخدام المياه، وسيتم التخلص من مشكلة طرحها وتشكيلها مستنقعات في الأحياء السكنية”.
ودعا كذلك إلى وضع رقابة على كيفية تصريف المياه التي تستخدم لتبريد محركات المولدات، لأن “ضررها البيئي يكون مضاعفاً، ولا بد من فرض غرامات على المخالفين لكن عملياً هذا لايحدث في الوقت الراهن”.
تلوث ضوضائي !
زهراء (18 سنة) طالبة في الصف السادس الإعدادي، من حي 9 نيسان، شرقي بغداد، تعاني من متلازمة حساسية الصوت الإنتقائية، وهي حالة من العصبية الزائدة والاضطرابات وتعكير المزاج عند الاستماع للأصوات المرتفعة. وهو ما يجبرها على عدم الخروج الى باحة المنزل أو حتى من غرفتها بسبب ضجيج مولدة الكهرباء القريبة من منزل عائلتها.
تقول وهي تضع يديها على اذنيها “لا أستطيع التركيز في الدراسة عندما تعمل المولدة، لهذا فأنا أشعر براحة كبيرة عندما يأتي التيار الوطني أو تتوقف المولدة لسبب ما، وتزيد فرحتي عندما تتعطل وأدعو من كل قلبي أن لايتم إصلاحها أبداً، وأفضل البقاء في الحر ووسط الظلام على سماع صوتها”.
تعليقاً على حالة زهراء، يقول حسين اللامي، الذي يحمل دكتوراه في علم النفس و الفلسفة، أن هنالك علاقة بين التلوث الضوضائي و تدهور الصحة النفسية، ويوضح: ”يسبب التلوث الضوضائي أعراضا مرضية ليس فقط لدى الانسان فحسب، بل حتى لدى الحيوان والنبات، فيقل انتاج الدجاج من البيض والحليب بالنسبة للابقار ويدفع الى هجرة الطيور، كما يؤثر على النمو النباتي وعملية التركيب الضوئي”.
ويعرف التلوث الضوضائيُ بأنه خليط متنافر من الأصوات ذات استمرارية غير مرغوب فيها، وتقاس عادةً بمقاييس مستوى الصوت، والديسيبل أو الوحدة اللوغاريتمية وهي الوحدة المعروفة عالمياً لقياس الصوت وشدة الضوضاء.
ومتلازمة حساسية الصوت، هي: ”حالة يعاني فيها الشخص من كراهية للأصوات المزعجة، وبالنسبة إلى الكثير من المصابين قد تكون هذه الحالة سيئة إلى درجة أنها تدفعهم للتفكير في الانتحار” يقول د. حسين.
ويشير إلى اختلاف تأثير الأصوات من شخص لآخر “فقد يعاني البعض من التعب والإرهاق العصبي و الشعور بالضيق والتأثر العاطفي السريع وكثرة الشكوى والتاثيرات العصبية الفسيولوجية المؤثرة على الانتاج والتي تزيد من نسبة الأخطاء و تنقص القدرة على التركيز وأداء الأعمال الذهنية و العقلية”.
ويذكر أن الأمر قد يتفاقم، فتؤدي الضوضاء الى فقدان السمع المؤقت أو الدائم :”بعض الدراسات العلمية توصلت إلى أن الضوضاء تؤثر على القدرة الذهنية للفرد مما يؤدي الى الاجهاد الذهني وعدم القدرة على الاستيعاب والتعلم، لذا يشكل التعرض المستمر لأصوات المولدات الأهلية خطراً مباشراً على المصابين بمتلازمة حساسية الصوت الانتقائية”.
تلقت معدة التحقيق معلومات من قبل العميد فراس سليم، مدير الشرطة البيئية مفادها أن دائرته تستقبل شكاوى كثيرة بشأن الضوضاء التي تحدثها المولدات، وفي إحدى المرات تم تشكيل لجنة لقياس نسبة التلوث الضوضائي الناجم عن مولدة كهرباء ديزل، بجهاز يقيس الضوضاء بالديسيبل، في مجمع سكني حديث ببغداد.
ويقول عن ذلك:”حاول أعضاء اللجة مراراً و تكراراً قياس نسبة التلوث الضوضائي هناك و لكن عجز الجهاز عن القياس وتوقف تماما لتجاوز صوت المولدة الحد المسموح بقراءته”.
وفقا لمنظمة الصحة العالمية ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها ووكالة حماية البيئة الأمريكية فان التلوث الضوضائي يعد أحد المشاكل الصحية المتزايدة، وهي تُعرف التلوث الضوضائي بأنه “الصوت غير المرغوب فيه في الوسط البيئي والذي من المحتمل أن يعرض الفرد الى الاصابة بضعف السمع والصداع والإجهاد و يؤثر بذلك على الانتاجية و جودة الحياة بشكل عام”.
ويرى مدير الشرطة البيئية بأن المولدات الأهلية من أبرز مصادر التلوث الضوضائي في العراق الى جانب ما تصدره من روائح، ويقول: ”تصدر موجات صوتية تنتقل عبر الهواء ويمكن قياس هذه الموجات باستعمال مقياس مستوى الصوت، والضوضاء التي تزيد حدتها عن 30 ديسبل تسبب اضطرابات نفسية والضوضاء التي تبلغ ما بين 60 الى 90 ديسيبل تسبب متاعب نفسية وعصبية و تضر بالسمع، أما التي تزيد عن 120 ديسبيل فتؤثر تاثيراً مباشراً على خلايا الكتلة العصبية داخل الأذن”.
وتؤكد د. رغد ودود الرفاعي، المختصة في الأمن البيئي لدى المفوضية العليا لحقوق الانسان، التأثيرات السلبية الكبيرة للضوضاء، بل ترى أن المولدات الأهلية تتسبب بمجموعة من المشاكل “الإنسانية والبيئية” التي رصدتها فرق المفوضية العاملة في بغداد والمحافظات.
وتعدد بعض المشاكل التي تؤثر على ما تسميه بالحقوق الصحية والنفسية “عدم احتواء أغلب تلك المولدات على كاتم للصوت، والمخلفات الناجمة عنها والتي تصرف الى شبكة الصرف الصحي، ومشكلة عدم اختيار موقع معظم المولدات وفق المعايير المكانية، كل ذلك يجعل أضرارها أكثر من منافعها”.
وتفترض د. رغد، التزام المولدات الكهرباء الأهلية بالقوانين الوطنية البيئية، مثل قانون حماية وتحسين البيئة رقم (٢٧) لسنة ٢٠٠٩، فضلا عن المحددات البيئية لمنظمة الصحة العالمية الخاصة بمستويات الصوت لتلافي الضوضاء ذات التأثيرات السمعية التي حددت للمناطق السكنية بنحو (50- 55) ديسبل.
“فإذا مازادت تلك المحددات فإنه يتسبب باعاقات سمعية كفقدان السمع الدائم والمؤقت والى الاذى الفيزيائي، ناهيك عن الحالة النفسية ومشاكل الجهاز التنفسي والحساسية اضافة الى أضرارها على البيئة المحلية”.
وتشير إلى أن المفوضية تستلم وفقا لقانونها رقم (٥٣) لسنة ٢٠٠٨ شكاوى مختلفة من الأفراد ومنظمات المجتمع المدني تتعلق بانتهاكات حقوق الانسان جراء الانبعاثات المؤذية والتلوث الضوضائي. لكنها لا توضح الاجراءات التي تتخذ حيالها. وتستدرك:”للمواطن الحق بالعيش في بيئة صحية آمنة، من خلال انفاذ الحقوق حسب القوانين الوطنية والجهة المؤسسية ذات الصلة”.
شرطة بيئية
بسبب المخالفات البيئية الكثيرة في العراق، تم تشكيل الشرطة البيئية وفقاً للنظام الداخلي رقم 1 لسنة 2015، ترتبط إداريا بوزارة الداخلية، وفنيا بوزارة البيئة. وتمارس دورها لحماية وتحسين البيئة بواسطة أجهزتها الرقابية والتنفيذية المختلفة بالتنسيق مع أجهزة الدولة الأخرى.
ومن بين مهامها، ممارسة سلطة القبض القضائي الممنوحة قانوناً لضباط ومفوضي الشرطة فيما يتعلق بالجرائم البيئية و تلقي الشكاوى والاخبارات بشأن التجاوزات البيئية واحالتها الى قاضي التحقيق المختص وفقاً للقانون و متابعة نتائجها”.
يقول مدير الشرطة البيئية العميد الكيمياوي فراس سليم، أن العدد الكلي من المشتركين في خطوط الكهرباء التي تمدها المولدات الـ 49000 في العراق يبلغ 6,700,665 مشتركاً أما عدد الامبيرات المجهزة خلال الشهر الواحد فوصلت إلى (25,875,722) امبيراً، وفق بيانات دائرته.
ويتابع: “الى جانب تلوث الهواء لوحظ تزايد تراكيز الملوثات التي تسببها مولدات البنزين والديزل وهي أول أوكسيد الكاربون – اكاسيد النترجين – اكاسيد الكبريت، والناتجة من مولدات البنزين بنسبة أكبر من تلك الناتجة من مولدات الديزل وأكثر من المحدد الوطني المقترح في بعض الأحيان”.
ويبين بأن المولدات العاملة بالديزل تنتج تقريبا (10 %) مما تنتجه مولدات البنزين من أول أوكسيد الكربون وتكون مركبات الرصاص منعدمة في الديزل ولكن “نلاحظ ازدياد مقدار الرصاص إلى أكثر من المحدد الوطني المقترح في حالة استخدام مولدة البنزين”.
و يستكمل وصف واقع المولدات الملوث للبيئة: ”أما بالنسبة لمجموعة الدقائق العالقة فنلاحظ بأن مقدارها في مولدة البنزين أقل مما عليه في مولدة الديزل إذ أن مشكلة محركات الديزل الرئيسية هي الرائحة و الدخان، و لايمكن هنا احصاء التلوثات الناجمة عن المولدات كونها تتشتت في الهواء أي غير ثابتة، ولكن يمكن قياس التلوث بواسطة أجهزة خاصة بالقرب من المولدة، وأغلبها أول أوكسيد الكاربون وأكاسيد النتروجين وأكاسيد الكبريت”.
وبغض النظر عن مصدر الملوثات من البنزين أو الديزل، ينبه مدير الشرطة البيئية، الى خطورة المولدات على التربة والنبات على حد سواء، ويوضح: ”يحدث التأثير المباشر عند انسكاب كميات من الوقود على التربة أثناء عملية التعبئة، ما يؤدي مع مرور الأيام الى تحول الأراضي حول المولدات الى أراض ميتة مشبعة بالاسكابات النفطية و الزيتية لتغدو ملوثة وغير صالحة للزراعة”.
أحمد شاكر (46 سنة) يملك مولدة كهرباء ديزل في منطقة الحرية غربي العاصمة بغداد، يؤكد بأن المياه التي يستخدمها لتبريد محرك المولدة هي التي تصل عبر شبكة مياه الإسالة، وهو يستخدمها على مدار الساعة، وتزداد حاجته منها مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، مؤكدا قيامه بتصريف المستخدم منها الى شبكات الصرف الصحي مباشرة.
كما لاينفي تسرب بعض زيت محرك المولدة إلى المجاري وتلوث الأرض بها: ”هذا طبيعي، نحن نبدل الزيت بنحو منتظم وكمياتها كبيرة، وأمانة بغداد نظمت عملية التخلص من الزيوت المستهلكة، إذ نقوم بجمعها في براميل ويتم بيعها ليعاد استخدامها لاحقا في نشاط آخر”.
وعن سبب الضجيج الذي تحدثه المولدات يقول:”بعض المولدات قديمة أو ليس فيها كاتم للصوت، بالنسبة لي، وأيضاً جميع أصحاب المولدات الآخرين، نضطر في فصل الصيف إلى نزع الهيكل الذي يغلف المحرك بسبب درجات الحرارة المرتفعة، فجعل المحرك مكشوفاً يعرضه للهواء وهذا جيد لتقليل حرارتها، لكن بالمقابل فالضوضاء تزيد”.
ويشير إلى أنه يعوض الأهالي القريبين من مولدته عن الأضرار التي تحدث لهم جراء صوت المولدة أو الدخان الذي ينبعث منها، بمنح كل منزل قريب “ثلاثة امبيرات من الكهرباء مجاناً”.
خدمة اجتماعية
كاظم عبد الفهداوي، رئيس نقابة مولدات بغداد، قاطع الكرخ، يقول بأن النقابة جهة غير رسمية، وطبيعة عملها تتركز على تلبية مطالب أصحاب المولدات الاهلية: ”خاصة تجاه الجهات الرقابية لتجهيز المولدات بحصة الكازوايل المجاني، وهي قليلة”.
وذكر أن أصحاب المولدات يتكبدون أحيانا خسائر، إذ تم تحديد سعر الأمبير الواحد من الكهرباء في 2023، بـ 8 الاف دينار (5,35 دولار) فأدى ذلك الى تعرضهم لخسائر بسبب السعر الباهظ للوقود ولا سيما في فصل الصيف إذ تزيد ساعات تجهيز المواطنين بالكهرباء، مشيراً إلى أن ذلك دفعهم إلى إعلان الإضراب وإطفاء مولداتهم.
لكن ذلك قوبل بإجراءات حكومية شديدة، وذلك بإلزامهم بوضع عداد يبين عدد ساعات التشغيل الخاصة بالمولدات ومقدار الطاقة المُجهزة للمواطنين، وفي مطلع عام 2024 صدر قرار من محافظة بغداد “باستحصال المستحقات المالية للمولدات من المشتركين في نهاية الشهر وليس في بدايته، مع فرض عقوبات قانونية بحق أصحاب المولدات المخالفين تترواح بين الغرامة والحبس” يقول الفهداوي.
مجيد عبد السلام (52 سنة)، صاحب مولدة من جنوبي العاصمة بغداد، يرى بأن شريحة أصحاب المولدات مظلومة في المجتمع العراقي، والأضرار التي تسببها مولداتهم تتحمل الدولة مسؤوليتها وليس هم.
ويقول: ”نحن نقدم خدمة كبيرة، إذ نعوض عن دور الدولة الأساسي في توفير الكهرباء، فهي لم تخصخص هذا القطاع، ولم تبني محطات كافية، لذا فأن مساهمتنا كبيرة وفاعلة منذ 1991، وبدلاً من شكرنا وتشجيعنا ودعمنا، نواجه الانتقادات والهجوم المستمر من قبل المجتمع والمؤسسات الحكومية”.
ويتساءل عن الدور الحكومي في مواجهة آثار عمل المولدات، فالدولة تعرف بأن وجود مولدات الكهرباء سيطول وأن اضراراً بيئية تنشأ عن عملها اليومي “فلماذا لم تضع خطط لمواجهة تلك الأضرار أو التخفيف منها، من خلال تنظيم قانون خاص”.
كما يدعو الى اجراءات ضرورية لتحسين بيئة العمل، كربط المنازل بالمولدات عبر أسلاك نظامية غير عشوائية كم هو عليه الحال الآن، ومعالجة مياه المولدات وزيوتها، وتحديد ارتفاعات للعوادم ودرجات معينة للضوضاء لايجوز تجاوزها.
ويستدرك:”لايحدث أي من ذلك، لذا عمل المولدات مستمر بشكل فوضوي إلى أبعد حد”.
الأستاذ المساعد د. صفاقس قاسم هادي من قسم الجغرافية بكلية الآداب، جامعة بغداد، أشارت في بحث لها أنجزته في العام 2022، إلى أن العجز في الشبكة الوطنية للكهرباء بلغ 52% في عموم العراق، نتيجة زيادة أعداد السكان والإرتفاع الكبير في درجات الحرارة والعجز الكبير المقابل في شبكات الطاقة الوطنية، وهو ما زاد الحاجة إلى المولدات الأهلية.
ورصدت الباحثة مشكلات أخرى إلى جانب المشكلات البيئية التي تسببها المولدات، وأهمها مشكلة ارتفاع السعر وتذبذبه، إذ تقول:”سعر أمبير الكهرباء الذي تجهزه غير ثابت وهو متغير من فصل إلى آخر، ففي ظل ارتفاع درجات الحرارة والتشغيل الزائد، تحتاج الى المزيد من الوقود المشترى من السوق السوداء، فيتم رفع سعر الأمبير لتعويض ذلك، وهي كلفة يتحملها المستهلك”.
وتضيف إلى ذلك تحمل المواطنين تكاليف إيصال الكهرباء الى منازلهم ومتاجرهم أو مقار أعمالهم:”هم يشترون الإسلاك والقوابس، وهي أعباء إضافية تقع على كواهلهم”. وتؤكد ان الطاقة المنتجة في محطات توليد الكهرباء “أقل كلفة وأقل تلويثاً”.
وأثبتت الدراسة أن المولدات تتسبب بتلويث هواء مدينة بغداد بكميات كبيرة من غاز أوكسيد الكاربون وأكسيد الكبريت وغيرها من الغازات الضارة، كما أنها تتسبب بتلوث ضوضائي للمنازل القريبة، في ظل عدم وجود رقابة وقوانين صارمة تحد من التلوثين البيئي والضوضائي في العراق.
وهنا شددت الباحثة على تفعيل دور الرقابة الصحية والبيئية، وتطبيق شروط سلامة عمل المولدات بما يتناسب مع القوانين العالمية ومنظمة الصحة العالمية.
ودعت الباحثة الى تنويع مصادر الطاقة في البلاد، وزيادة محطات الطاقة التي تعمل على الغاز بدلاً من الوقود الأحفوري، وتشجيع المجتمع على استخدام الأجهزة الموفرة للطاقة، بما يساهم في تقليل استخدام المولدات الأهلية لحين وقفها نهائيا.
ثائر جاسم (25 سنة) موظف في أمانة العاصمة، يسكن شرقي بغداد، واحدٌ من أولئك الذين تضرروا من مولدات الكهرباء الأهلية، إذ يقول: ”يواجه سكان المنازل المجاورة للمولدة وأنا منهم، من الانسداد الدائم في مجاري الصرف الصحي، نتيجة الكميات الهائلة من مياه تبريد المولدة التي تطلق اليها، وهي مختلطة في العادة بالزيوت والوقود”.
يضع سبابتي يديه في أذنيه في إشارة للضوضاء التي تسببها المولدة:”أدمغتنا ستنفجر، لكن لا حيلة بأيدينا”.
ينظر إلى المولدة والتي كانت قد بدأت بالعمل للتو والدخان يتصاعد من عادمها:”وجدت هذه المولدات لحل مشكلة الكهرباء، فخلقت العديد من المشكلات الأخرى، بعضها تهدد صحة الإنسان”.
يرفع صوته، وهو يمسح قطرات عرق علقت على جبينه: ”انها كارثة وطنية مستمرة منذ 30 عاماً، ولا أعتقد بأنني ساعيش لأرى اليوم الذي تزال فيه، ونستمتع بالكهرباء دون ملوثات وضوضاء كالبشر في باقي دول العالم”.
المصدر: شبكة "نيريج"
أقرأ ايضاً
- توجيه للسوداني قد يجد لها حلا :مناطق البستنة في كربلاء يعجز الجميع عن بناء مدارس لابنائها الطلبة فيها
- يرتبط بالحزبين الرئيسين في الإقليم.. الكشف عن آليات غسيل وتهريب الدولار من كردستان العراق خلال عقدين
- 100 ألف إنسان في "بسماية" يعيشون تحت خطر انبعاثات المناطق الصناعية المهددة للبيئة والصحة