- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
عْاشُورْاءُ - الجزء الرابع عشر
بقلم: نزار حيدر
قَولُ زَينبُ بنتِ عليٍّ (ع) {لا تمحُو ذِكرَنا}.
كُلَّما يمرُّ في خاطري هذا القَول، التحدِّي التَّاريخي العظيم، لعقيلةِ الهاشميِّينَ زينبُ بنتَ عليٍّ (ع) للطَّاغية يزيد في مجلسهِ بالشَّام، أَتذكَّرُ إِنتفاضةَ الحُسينيِّينَ الأَبطال في العشرينَ من صفرٍ عام ١٩٧٧ للميلادِ ضدَّ نظام الطَّاغية الذَّليل صدَّام حسين الذي فعلَ المُستحيل ووظَّف العُنف والقَسوة والإِرهاب واستخدمَ كُلَّ الوسائل من أَجلِ القضاءِ على كُلِّ ما يمتُّ إِلى الحُسينِ السِّبط (ع) وعاشوراء وكربلاء بصلةٍ، منها منعُ النَّاسِ من زيارةِ الأَربعين، ولكنَّهُ وبفضلِ الله تعالى وبدماءِ عاشُوراء وتصميمِ العراقيِّينَ وتحدِّيهم وتضحياتهِم فشلَت كُلَّ خُطَطهِ الأَمويَّة فعادت الأَربعُون نوراً ساطِعاً وذِكرى وهَّاجة ومسيرة عالميَّة تُلهم البشريَّة درُوساً لم تألفها في التَّاريخ.
ثمَّ أُقارن بينَ الأَربعين عام ١٩٧٧ وكيفَ كانَ الزَّاحفُونَ إِلى كربلاء بعددِنا القليل وانقطاعِنا عن العالَم إِلَّا ما يصل مِن أَخبارِنا النَّادرة إِلى النَّجف الأَشرف وكربلاء المُقدَّسة وقد حاصرتنا القوَّات العسكريَّة بدبَّاباتِها ومُدرَّعاتِها وطائراتِها التي كانت تحومُ فوقَ رؤُوسِنا فانقطعَ عنَّا الطَّعام والشَّراب إِذ لم يعُد يصلنا منها شيءٌ عندما انتشرت مفارزَ الأَمنِ والمُخابرات على الطُّرُقِ العامَّة والفرعيَّة تُفتِّش كُلَّ شارِدةٍ ووارِدةٍ حتَّى لا تتسرَّب ذرَّةَ طعامٍ أَو قطرةِ ماءٍ للمُنتفضينَ الحُسينيِّينَ!.
أُقارن كُلَّ هذا معَ ما نراهُ اليَوم من صُوَرٍ في الزَّحفِ المليُوني صوبَ مرقدِ الحبيبِ والمعشُوقِ والإِمامِ الثَّائر الشَّهيد وصحبهِ وأَهلِ بيتهِ وقد امتلأَت الشَّوارع على مدِّ البصرِ بكُلِّ ما تشتهيهِ أَنفس الزَّائرين من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ وخدماتٍ ومُداراةٍ وكُلُّها بالمجَّانِ على حُبِّ الحُسينِ السِّبط (ع).
أُقارِنُ بينَ صُورتَينِ في زمنَينِ مُختلِفَينِ فأُردِّدُ قولَ العقيلةِ (ع) {لا تمحُو ذِكرَنا}.
لقد ذهبَ الطَّاغية الأَرعن يزيد إِلى مزبلةِ التَّاريخ وإِلى جهنَّم وبئسَ المصير، أَمَّا الحُسين السِّبط(ع) الذي قتلُوهُ معَ الثُّلَّةِ المُؤمِنةِ الطَّاهرةِ من أَهلِ بيتهِ وأَصحابهِ وسبَوا عيالهِ ومَن معهُم من النِّساء والأَطفال، فقد تحوَّلَ إِلى شُعلةٍ وهَّاجةٍ ونورٍ يُضيءُ الدَّربَ ليس لشيعتهِ فقط أَو للمُسلمينَ أَو لأَتباعِ الدِّيانات السَّماويَّة وإِنَّما للنَّاسِ كافَّة، وأَنَّ المسيرات المليونيَّة التي تجوبُ هذهِ الأَيَّام في كُلِّ شوارِع العالَم وفي كُلِّ عواصِم العالَم وفي كُلِّ المُدن الكُبرى والرئيسيَّة في دُول العالَم، تُنبِئُكَ عن حقيقةِ الأَشياء وصدقِها، فهي الدَّليلُ الواضح والبُرهان السَّاطع على صدقِ تحدِّي العقيلة للطَّاغيةِ وفي عُقرِ دارهِ، عندما ظنَّ نفسهُ أَنَّهُ المُنتصر ليتبيَّنَ لهُ بعدَ حينٍ بأَنَّهُ المُنهزم وأَنَّ الحُسين السِّبط (ع) هو المُنتصر وبكلِّ المقاييسِ.
وإِلَّا؛ لماذا يُحاربُ المرء؟! أَوليسَ من أَجلِ أَن يكرِّس مفاهيمهِ وعقائدهِ ونهجهِ وأُسلوبهِ في الحياةِ كمدرسةٍ للأَجيالِ المُتعاقبةِ؟! فإِذا نجحَ في تحقيقِ ذلكَ فهوَ المُنتصر حتَّى إِذا استُشهدَ في ساحةِ المعركةِ، أَمَّا إِذا فشلَ في ذلكَ فهوَ المُنهزم حتَّى إِذا انتصرَ في ساحةِ المعركةِ، وإِلى هذا المعنى أَشارت عقيلة الهاشميِّينَ (ع) بقولِها تُخاطب الطَّاغية الأَرعن يزيد {ثُمَّ كِدْ كَيْدَكَ وَاجْهَدْ جُهْدَكَ! فَوَ الَّذِي شَرَّفَنَا بِالْوَحْيِ وَالْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ وَالِانْتِجَابِ لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَنَا وَلَا تَمْحُو ذِكْرَنَا وَلَا تَرْحَضُ عَنْكَ عَارُنَا وَهَلْ رَأْيُكَ إِلَّا فَنَدٌ وَأَيَّامُكَ إِلَّا عَدَدٌ وَجَمْعُكَ إِلَّا بَدَدٌ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي أَلَا لُعِنَ الظَّالِمُ الْعَادِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَكَمَ لِأَوْلِيَائِهِ بِالسَّعَادَةِ وَخَتَمَ لِأَوْصِيَائِهِ بِبُلُوغِ الْإِرَادَةِ نَقَلَهُمْ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَمْ يَشْقَ بِهِمْ غَيْرُكَ وَلَا ابْتَلَى بِهِمْ سِوَاكَ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ الْأَجْرَ وَيُجْزِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالذُّخْرَ وَنَسْأَلُهُ حُسْنَ الْخِلَافَةِ وَجَمِيلَ الْإِنَابَةِ إِنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ}.
مُشكلةُ المرءِ هي أَنَّهُ يرى الأُمورَ بعينِ اللَّحظةِ ولا يراها بعينِ الغدِ، عَينِ العاقبةِ {تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} فينسى أَنَّ {لِكُلِّ امْرِئٍ عَاقِبَةٌ حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةٌ} كما يقُولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) فيظنُّ أَنَّ ما يكسبهُ اليَوم لا عِلاقةَ لهُ بالغدِ وأَنَّ ما يُنجزهُ اللَّحظة لا يتمُّ تثبيتهُ لِما بعدَ هذهِ اللَّحظة، فإِذا ظنَّ أَنَّهُ قد انتصرَ تصوَّرَ بأَنَّهُ الإِنتصار الأَبدي الذي سيتوقَّف الفلَك عن الدَّوَران من أَجلِ أَن لا يتغيَّر الحال، وإِذا لم يُحقِّق نجاحاً يئِسَ وظنَّ أَنَّ الفلَك قد توقَّفَ عنِ الدَّوران فلا مجالَ للفَوزِ أَو النَّصرِ ثانِيةً.
خاصَّةً الطُّغاة والظَّالمُونَ والمُستبدُّونَ والفاسِدونَ الذين يتمكَّنونَ من السُّلطة لأَيِّ سببٍ كانَ، فهؤُلاء يتوقَّف عندهُم الفلَك عن الدَّوران بالسُّرعةِ القُصوى، فتراهُم يفرحُون كلَّما مدَّ لهُم ربُّ العالَمينَ مدّاً ناسينَ أَو مُتناسينَ قولَ الله تعالى الذي استشهدَت بهِ العقيلة (ع) وهيَ تقرع الطَّاغية يزيد بقولِها {أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ، وَضَيَّقْتَ عَلَيْنَا آفَاقَ السَّمَاءِ فَأَصْبَحْنَا لَكَ فِي إِسَارٍ نُسَاقُ إِلَيْكَ سَوْقاً فِي قِطَارٍ وَأَنْتَ عَلَيْنَا ذُو اقْتِدَارٍ أَنَّ بِنَا مِنَ اللَّهِ هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً وَامْتِنَاناً؟! وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ وَجَلَالَةِ قَدْرِكَ؟! فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ فِي عِطْفٍ تَضْرِبُ أَصْدَرَيْكَ فَرِحاً وَتَنْفُضُ مِدْرَوَيْكَ مَرِحاً حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً وَالْأُمُورَ لَدَيْكَ مُتَّسِقَةً وَحِينَ صَفِيَ لَكَ مُلْكُنَا وَخَلَصَ لَكَ سُلْطَانُنَا.
فَمَهْلًا مَهْلًا لَا تَطِشْ جَهْلًا! أَنَسِيتَ قَوْلَ اللَّهِ:
وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}.
إِنَّ إِنتفاضة صفر عام ١٩٧٧ التي مثَّلت القِمَّة في التحدِّي لنظامٍ جائرٍ مُستبدٍّ كانَ يسعى للتدخُّل بخياراتِ النَّاس وتحديدِها كما يريدُ ويرغب في مشروعِ [الأَدلجةِ السياسيَّةِ المُهيمِنةِ] {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} {قَالَ فِرۡعَوۡنُ ءَامَنتُم بِهِۦ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكۡرٞ مَّكَرۡتُمُوهُ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لِتُخۡرِجُواْ مِنۡهَآ أَهۡلَهَاۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٍۢ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} حتَّى الدينيَّة والمذهبيَّة والعقديَّة والفكريَّة والثقافيَّة منها، أَسَّست لهذا الواقع الذي نراهُ ويراهُ العالَم اليَوم في الإِتِّجاهات الأَربعة وبكلِّ اللُّغاتِ عِبرَ كُلِّ وسائل الإِعلام المرئيَّة والمقرُوءة والمسمُوعة.
لقد ضيَّقَ الطَّاغية يزيد آفَاقَ السَّمَاءِ على عاشُوراء ومنطلقاتِها وأَهدافِها ونتائجِها وعلى حجمِ الجريمةِ النَّكراء التي ارتكبَها بحقِّ سبطِ رسولِ الله (ص) وأَهلِ بيتهِ وأَصحابهِ وحُرمهِ وعِيالهِ، ظنّاً منهُ بأَنَّ مُحاصرة الرِّسالة بهذهِ الطَّريقة سيقبُرها في مهدِها، فماذا كانت النَّتيجة اليَوم؟!.
كما أَنَّ الطَّاغية الذَّليل صدَّام حسين ضيَّقَ على إِنتفاضةِ صفَر الباسِلة آفاق السَّماء بالمُحاصرةِ والتَّزويرِ والتَّضليلِ والبُهتانِ ونشرِ الأَكاذيبِ والتُّهمِ الباطِلةِ، فماذا كانت عاقبة الأُمور؟!.
لقد سخَّر الله تعالى كُلَّ الآفاق وكُلَّ الفضائيَّات والأَقمار الإِصطناعيَّة والتَّكنلوجيا في خدمةِ الأَربعين، فباتَ العالَمُ يُتابع تفاصيل المسيرات المليونيَّة في البيتِ والمدرسةِ والشَّارعِ والنَّادي والمقهى والمصنع والجامِعة والسُّوق وفي كُلِّ الحالات، الكبير والصَّغير والرَّجُل والمرأَة وفي كُلِّ اللُّغات.
ماذا يعني هذا؟!.
أَلا يعني أَنَّ السَّماء صدَّقت وأَمضت تحدِّي العقيلة (ع) وأَذلَّت الطَّاغوت؟!.
أَلا يعني أَنَّ السَّماء أَمضت دماء شُهداء إِنتفاضة صفر الباسِلة وأَذلَّت الطَّاغوت الأَرعن وزبانيتهِ الذينَ مكرُوا ومكرَ الله {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
وعندما تكرَّر تحدِّي ومكر الإِرهابيِّين بعاشُوراء في السِّنين الأُولى لسقُوط الصَّنم عام ٢٠٠٣ فكانُوا يُطلِقُونَ قذائف المدفعيَّة بشَكلٍ عشوائيٍّ على الزوَّار لقتلِ وجرحِ وترويعِ أَكبرِ عددٍ منهُم، هل أَماتُوا الذِّكرى؟! هل قلَّ عددُ الزاحفينَ إِلى مهوى العاشقينَ أَم تضاعفَ بما فاقَ التصوُّر؟! أَلم تنصُر السَّماء الحُسينييِّنَ زوَّار الحُسين السِّبط (ع) وتخذُل الإِرهابيِّين ومَن يقِف خلفهُم؟!.
فسلامٌ على الحُسين الشَّهيد وعلى عليِّ بن الحُسين وعلى أَولاد الحُسين وعلى أَصحاب الحُسين الذين نصرُوا الحُسين منذُ عاشوراء عام ٦١ للهجرةِ وإِلى الآن مروراً بشُهداءِ إِنتفاضةِ صفَر الخالِدة!.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول