- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العراق والتغيرالمناخي.. العراق ضحية التجفيف والتجريف والفساد - الجزء الخامس
بقلم: حسن الجنابي - وزير الموارد المائية الاسبق
هناك شعور عام لا أعتقد انه صحيح بتأثير التغيرات المناخية على العراقيين، لكنه ينبع من تراكم عدد كبير من العوامل التي تجعل حياتهم غاية في الصعوبة والقسوة وهي غير مرتبطة بالمناخ والإنبعاثات الغازية. أهم هذه العوامل، إن لم تكن جميعها، داخلية الطابع، وإن لم تكن كذلك فهي إقليمية مرتبطة بإجراءات ومشاريع خارج الحدود الوطنية.
أهم عوامل صعوبة الحياة في العراق هو نقص الخدمات الأساسية، وبؤسها ان وجدت، ومنها ظروف السكن السيئة، وتدهور قطاعات الطاقة والصحة والتعليم والخدمات البلدية والبناء العشوائي وغير ذلك، مما يسبب الفقر والبطالة والنزوح وسوء التغذية والمشكلات الإجتماعية المعقدة المؤدية بالنتيجة الى تفكك الأسر وانتشار التسول والفساد والرشوة والنزوح او الهجرة.
حصل انهيار القطاعات الخدمية على خلفية من العقود المظلمة للحكم، تميزت بالحروب والقمع والأرهاب والإحتلال وانتهاك السيادة، وانتهت أخيراً بنظام تقاسم غنائم السلطة.
أنتجت ترتبيات السياسة ما بعد 2003 طبقة من الطفيليين والإقطاعيين الجدد ممن أثروا على حساب المال العام دون الإسهام في تطوير الإقتصاد. تسبب هؤلاء في خلق فجوة اجتماعية كبيرة، ينسحق في مستوياتها الدنيا ملايين الفقراء، الذين يأوي المحظوظون منهم الى النوم بوجبة واحدة في اليوم، والكثيرون ببطون خاوية ليواجهوا في اليوم التالي قلقاً أكبر على مصيرهم ومصائر عوائلهم. أما الأثرياء الجدد، وبإستثناء قلة قليلة منهم ممن كانوا ميسوري الحال في السابق، فهم ممن تسلقوا في عالم المال الفاسد بسرعة خاطفة، وأصبح من لم يكن يملك عملاً أو راتباً او حساباً مصرفياً من كبار الأثرياء وتجار العملة والعقارات في العراق والمنطقة، دون ان يدفع سنتاً واحداً من الضرائب، بل برعت مجموعة منهم في سرقة الضرائب من مصارف الدولة في أكبر فضيحة مالية في هذا العصر.
ينشغل أفراد المجتمع الفقير بالبقاء على قيد الحياة في ظل الحروب الطويلة والارهاب والتفجيرات، وكذلك في تدبير لقمة العيش في ظل تفشي الفقر وتدهور سبل المعيشة، وانهيار قدرة الحكومات المتعاقبة على القيام بمهام الحكم، والشرخ الكبير الذي أحدثه ذلك بين المجتمع والسلطة. في ظروف كهذه يتراجع إحساس المواطنين بالمخاطر الطويلة الأمد على البلاد والمجتمع. فالمجتمع يواجه دوامة التحديات والمشكلات اليومية الضاغطة وفي أحسن الأحوال التحديات القصيرة الأمد. لذلك فإن ما قد يسببه تغير المناخ من تأثيرات على المستوى البعيد ليس من الإهتمامات الضاغطة للمواطنين. أما حكومياً فالإمر فرصة للتصريحات الخادعة لمسؤولين عن قطاعات حكومية وتشكيلات بيروقراطية مختَلَقة عاجزة عن أداء دورها في زمن المحاصصة، وبلا امكانيات وليس لها أي دور حقيقي في أروقة الحكم أو التنمية الإقتصادية والإجتماعية.
إن عدم إهتمام المواطنين بتحديات المستقبل البعيد، ومنها التغير المناخي، ومهما كانت اسبابه مما ذكر أعلاه، هو موقف متوقع في ظروف العراق. صحيح أنه ليس من الحكمة تجاهل تحديات المستقبل البعيد لكنها أقل تأثيراً على الحياة الحاضرة، والحكمة تقتضي تحسين حياتهم الحاضرة المهددة بالفقر. فالحياة في المدن العراقية المتوسعة عشوائياً بدون استثناء بائسة بكل المعايير. فأحياؤها مليئة بالخرائب ومكتظة بالعربات ووسائط النقل القديمة، وتفتقد لشروط الحياة السليمة، وتنعدم فيها الخدمات حتى بحدودها الدنيا مثل جمع القمامة او شبكات الصرف الصحي وهي قابلة للغرق إثر زخات مطر خفيفة.
فالعاصمة بغداد نفسها اختفت فيها سمات التحضر الى درجة مريعة، وتوسعت أفقياً لتستوعب أكثر من (8) مليون مواطن غالبيتهم من المهاجرين من المدن والأرياف العراقية الأخرى، وقد جرى آخر تحديث لبعض البنى التحتية فيها في الثمانينات، واصبحت بذلك تستوعب حوالي المليوني نسمة. أي ان في المدينة حوالي ستة ملايين مواطن يواجهون نقص الخدمات الأساسية في العاصمة وحدها حالياً.
أما مناطق الريف فلا يميزها شيء عن المدن سوى المزيد من الفقر والبؤس والأمية والمصير المجهول، وهي مناطق تفتقد لأبسط مقومات الحياة العصرية ومنها الماء الصالح للشرب. وفي ظلال الشحة المائية المتكررة تصبح الإقامة في الريف العراق مستحيلة، كاستحالة العيش الكريم في حواشي المدن والعشوائيات.
ان كان موقف المجتمع غير المكترث إزاء المخاطر البعيدة المدى مبرراً، فلا تبرير للفشل الحكومي المستمر منذ عشرات السنين في التصدي لتلك المخاطر وخاصة في توفير حياة آمنة وصحية للمجتمع. فالمجتمع مهما كانت ثقافته وتماسكه وقدرته على المقاومة يبقى بحاجة الى حكومة مسؤولة عن تلبية وتنظيم احتياجاته وتوفير أسباب انخراطه الطوعي في حماية مستقبله واحترام بيئته وموارده الطبيعية. وإن الفشل في قدرة المجتمع على الإستقرار والنمو وتحقيق الرفاه تتحمله الحكومة وليس أي جهة أخرى.
فيما يتعلق بالتغير المناخي المتمثل بحوادث المتغيرات المتطرفة في الطقس، أي شدة حوادث الفيضانات او الندرة والجفاف الشديدين، لا يختلف العراق عن الدول الآخرى في غرب القارة الآسيوية إلا بقدر تأثير العوامل المحلية التي قد تضاعف من تأثير العوامل الخارجية المتمثلة بالتغير المناخي.
أما في مجال ارتفاع حرارة سطح الأرض الذي نلمسه بشكل قاس في الصيف فإن العراق هو ضحية نفسه أولاً، أي ضحية سياسات التجفيف والتجريف والبناء العشوائي والتمدد على الأراضي الخصبة واستغلال الفاسدين لمحرمات الأنهار وما شابه ذلك، الى جانب استحواذ الجوار الجغرافي على ما يزيد على 50% من ايرادات العراق المائية المعتادة.
وهنا فإن المقاربة الوحيدة الفاعلة لحماية العراق، بما فيها من التأثيرات المحتملة للتغيرات المناخية، هي تحسين الأداء الداخلي بتطوير منظومة التشريعات التي تقيد وتمنع استباحة الأراضي وتغيير جنسها، واحترام المحددات الفيزيائية والهيدرولوجية ومنع التلويث والعشرات من الإجراءات المناسبة الأخرى التي لا يسمح فضاء هذه المقالة بسردها.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة