حجم النص
بقلم: إياد مهدي عباس
يتطلب الحديث عن النخلة وأهميتها الى وقفة تأمل ونظرة تمعن في قيمتها المادية والمعنوية واستحضار شواهد التاريخ والعودة الى الأمم السالفة التي عشقت تلك الشجرة من دون غيرها من الأشجار وأسباب التعلق بها وارتباطها الوثيق في الذاكرة العراقية منذ آلاف السنين، إذ جاء ذكرها في أدبيات الحضارة القديمة التي أُقيمت في بلاد وادي الرافدين وفي شرائعها المختلفة.
إذ جاء ذكرها في شريعة الملك حمورابي منذ ستة آلاف سنة قبل الميلاد، وأولت هذه الشريعة اهتماما كبيرا للنخلة ففي المادة القانونية رقم (59) من هذه الشريعة حددت طريقة التعامل بين المستأجر وصاحب البستان وفرضت عقوبات على من يقطع نخلة من دون إذن صاحبها، وكذلك فرض غرامة مقدار من الفضة على كل فلاح لا يهتم بزراعة النخلة ويؤدي إهماله لها الى انخفاض في انتاجها السنوي، فهي من الأهمية بمكان أنها كانت تكفي لسد معظم احتياجات عيش الإنسان في ذلك الوقت، وهذا يدل على أهميتها الكبيرة في حياة الناس وفوائدها الجمة واستعمالاتها الكثيرة فهي صاحبة الطول المهيب الباسق والظل الوارف والثمر اليانع والجذع القويم الذي يستخدمه الناس في بناء سقوف منازلهم ومن سعفها غطاء لهذه السقوف، ومن خوصها حصائر ومن جريدها أسرة للنوم، ومن ليفها حبالا ومن كربها نارا يطهون بها طعامهم، ومن أجزائها علاجا لبعض الأمراض والعلل، ومن نواتها علفا للحيوانات وفوائد أخرى يطول شرحها، فإن جميع أجزاء هذه الشجرة هي خامة صالحة لمختلف الاستعمالات المفيدة للإنسان فهي مصدر للغذاء والكساء ومواد للبناء؛ لذا من حق العراقيين والشعوب العربية أن تعطي للنخلة قدسية خاصة إذا ما قورنت مع بعض الشعوب التي عبدت الحيوانات أو قدّست بعض الأشجار التي هي أقل عطاءً وقيمةً من النخلة.
لذلك عندما جاء الإسلام أعطاها ذات المكانة التي تستحقها، إذ ذُكرت في القرآن الكريم في ثلاثة وعشرين موضعاً وجاء ذكرها أيضاً في السنة النبوية وكتب الحديث المختلفة بأنها خُلقت من الطينة التي خلق الله منها عباده البشر؛ لذلك سميت عمتنا وأوصانا نبينا الأكرم بها خيراً وحثنا على إكرامها ورعايتها والاهتمام بزراعتها فجاء في الحديث النبوي الشريف (أكرموا عمَّتكم النخلة)، فوجدت النخلة في العراق منذ العصور القديمة فهو موطنها الأصلي حيث ازدهرت زراعتها على أرضه بسبب توفر المناخ المناسب لها والتربة الصالحة والمياه الوفيرة فانتشرت زراعتها في وسط وجنوب العراق حتى سمّي العراق بأرض السواد بسبب كثافة نخيله فكان العراق من أوائل الدول المنتجة والمصدرة للتمور إلّا أن دوره الريادي من حيث أعداد النخيل وكمية الانتاج بدأ يتراجع بشكل ملحوظ وكبير خصوصا في العقدين الأخيرين من القرن الماضي بسبب الحروب المتتالية وسنين الحصار الطويلة التي فُرضت على العراق نتيجة السياسات المتهورة للنظام السابق، فكان نصيب القطاع الزراعي من الضرر وخصوصا النخلة كبيرا جدا فانتشرت الأوبئة والأمراض الزراعية بشكل واسع فمات منها الكثير.
وبعد احتلال العراق في عام 2003 دخلت الزراعة في العراق مرحلة جديدة من التدهور والتأخر والإهمال بسبب الصراع السياسي وغياب التخطيط العلمي فتعرّضت النخلة إلى الإهمال والقطع الجائر وغياب الرقابة والدعم الحكومي للزراعة بشكل عام فهجر الفلاح زراعة النخيل والعناية بها لعدم الجدوى الاقتصادية منها، فبعد أن كان العراق يتصدر قائمة عدد النخيل في الوطن العربي وفي مقدمة الدول المصدرة للتمور أصبح مستوردا للتمور من دول الجوار فتحول العراق الى سوق مفتوحة للمنتجات الزراعية المختلفة؛ لذا من الواجب الوطني والأخلاقي أن تهتم الحكومات المقبلة بالقطاع الزراعي اهتماما كبيرا وتوفير الدعم اللازم له وخصوصاً النخلة لما لها من مكانة ورمزية في نفوس الشعب العراقي منذ آلاف السنين.