بقلم: سمانا السامرائي
كان ذلك مباغتاً، كما لو كنت في فيلم نفسي، كل شيء يسير بسرعة لدرجة أنه يبدو متوقفاً، وأنا أحتل مركز الشاشة بعينين ذاهلتين، تلك الفترة التي أعادت تشكيل عالمي… ذلك الوقت الذي أدركت فيه إني مصابة بحساسية الغلوتين.
ذكريات
كل ما أذكره عن نفسي هو أنني مريضة، مريضة باستمرار، كل شيء في جسدي يؤلمني أو سيؤلمني، من الممكن أن أفقد الوعي في أي لحظة، إنني أتداعى، أنني أشيخ بسرعة، إن جسدي لا يحتمل عقلي النشط ورغبتي في المغامرة، كل شيء تباعاً يُطفأ،
ولذا كنت دائماً أبذل جهداً جباراً لأبدو طبيعية، أبدو حيوية، أبدو كما سني… شابة.
ثم أُقعدت تماماً عن الحركة، زرت طبيبة وأنا أرغب في العثور على حل، أتعبني التنقل بين الأطباء دون جدوى، حينما أخبرتني أن لا خطب بي بكيت أمامها، وبكت معي هي، وكم واستني دموعها!… تلك الدقائق محفورة في قلبي.
ثم بعد سنوات الحيرة تلك عرفت! أنني مصابة بحساسية الغلوتين، هذه الإجابة، أخيراً سأجتاز الاختبار.
لكن ماذا يعني الغلوتين يا ترى؟
قليل ما عرفت حينها، توقعت أن علي التقليل من الطحين فقط، أحب البطاطا والرز لذا استبدلت الطحين بها، ثم تدريجياً عرفت أن علي إيجادَ بديلاً لكل شيء تقريباً، البهار، رقائق البطاطا، حبوب الإفطار، الشوكولا، مبيض القهوة، مسحوق الكريما، الكعك والحلويات اللذيذة، المارشميلو، المثلجات، البرغل، الدجاج المقرمش المحبوب في عائلتنا، المعكرونة، الشعرية، والباشميل، وكل شيء آخر.
في أول شهرين بدأت بخفض ما استهلكه من الطحين باستخدام البطاطا المهروسة أو الرز، لكنني عند نقطة ما أردت صنع طعاماً يبدو كالطعام الطبيعي الذي اعتدته طوال حياتي، هذه ليست حمية لخسارة الوزن ومن ثم أعود بعدها إلى وجباتي اللذيذة، إنني لن أستطيع هضم ما أعرفه من الطعام ما حييت، وعلي تقبل ذلك.
من محاسن كوني لستُ مغرمة بالطعام عموماً وليس لدي ارتباط عاطفي به، وأحب فلسفة الطعام الآسيوية وأتناول كل شيء مع الرز منذ وقت طويل أصلاً، وأنني لا أخاف التجربة أو أهاب الابتكار، مع هذا ولأسباب اجتماعية مثل تحاشي الشفقة التي أمطر بها حين أتناول طعاماً مختلفاً، ولانشغالي الذي يمنعني من إعداد أطعمتي، قررتُ البحث عن متاجر تبيع طعاماً خاصاً بالمصابين بحساسية الغلوتين، وعثرت عليها! يا لها هذا العالم الرائع! يا لتلك السهولة! كدتُ أبكي من فرط السعادة أمام رفوف الغذاء، لقد أخذت كل ما رأيته، كان بإمكاني أن أصنع كعكاً وأتناول بسكويتاً ومعكرونة.
عالم المصابين بحساسية الغلوتين
في أول مرة حاسبت فيها من أجل أطعمة الحساسية تدلى فكي السفلي، الأسعار تفوق الغذاء الاعتيادي مئة في المئة، وهذا مقلق لكل مصابي حساسية الغلوتين، خصوصاً لذوي الأطفال المصابين، لأن الطفل لا يفهم ويريد كل شيء.
لكن هذا النوع من القلق لم يستمر طويلاً، فنوع أكبر من القلق داهمني وصرع القلق الأول بكل سهولة، ماذا إن لم أجد غذائي؟ في أوقات تفشي فايروس كورونا كنتُ أقف أحياناً أمام رفوف شبه فارغة، وحتى المواقع المحلية التي كنتُ أعتمد عليها لا تعيد جلب المواد التي أحتاجها، كنتُ مستعدة لدفع أي مال، لكن لم يكن هناك ما أشتريه.
لذا كنت استعين بدقيق الرز ودقيق الذرة والبطاطا واصنع ما لذ وطاب، وكنتُ سعيدة… إن توفر غذائي في السوق فهو شيء إضافي فحسب، كنتُ مكتفية.
كانت هذه هي فترتي الذهبية كمصابة بحساسية الغلوتين… ثم عادت الحياة، عاد العمل مكتبياً كثيفاً شاقاً، والجامعة فتحت أبوابها مجدداً لتحتضن طلابها، وأصبحت شخصاً بدوامين، لم أعد أتمكن من توفير وقت كبير للطبخ.
في الأسابيع الأولى تمكنت من جعل يوم الجمعة يوماً للطبخ، ثم لاحقاً مع التزامات العمل والدراسة والحد الأدنى من الواجبات الإجتماعية التي أفرضها على نفسي تسربت هذه العادة من بين أصابعي، غير إن السوق ومن حسن الحظ عاد حيوياً نشطاً.
طرائف
من الأمور المضحكة كمصابة بحساسية غذائية، إن العائلة كلها تصرخ كأنهم نصبوا نظام إنذار ضد الغلوتين ما إن أوشك على تناول ما يحتوي على غلوتين.
وذات مرة عثر أبي على بسكويت محشو بالشوكولا بدون غلوتين وبسعر مناسب – يبدو أن أصحاب المتجر لم يكتشفوا إنه منتج من نوع خاص – في ذلك اليوم ذهب أبي مرتين المتجر وأحضر كل الصناديق المتوفرة.
الوحدة في ثقافة تقدس الغذاء
أحياناً أشعر أنني وحيدة، لا شيء يربطني بمحيطي، عائلتي، زملائي، أصدقائي، كأن هناك مسافة غير مرئية، فبعد كل شيء أنا أنتمي إلى ثقافة تعبر عن تقاربها وحبها واعتذارها وفرحها وحزنها عن طريق الطعام… نحن نتواصل من خلال الوجبات، يشعر الناس حولي إني متكبرة ومنعزلة وغير ودودة، خصوصاً عندما أرفض دعواتهم لمشاركة الطعام أو أرفض قطعة بقلاوة لمناسبة بهيجة أو ذكرى وفاة عزيز.
من الصعب علي فهم وضعي الجديد، ومن الأصعب شرح الأمر للآخرين، ولذا أتغيب عمداً عندما يأتي الطعام لكي لا أقضي وقت الجلسة كاملاً في شرح ماذا يعني مصابة بحساسية الغلوتين، فتكرار الأمر جعل حساسية الغلوتين تعريفاً لي وهذا أمر مجحف.
حياتي الآن
مع هذا شيئاً فشيئاً أحصل على تفهم أكثر من الشفقة، ودعم أكثر من سوء الفهم، وإدراك بحقيقة حالتي وأعراضها وعدم الإصرار علي أن أشاركهم الطعام.
كما أنني أعرف الآن أن ما أتبعه هو أسلوب حياة مختلف فرضه علي تكويني وليس مرض سأشفى منه يوماً، وإدراك هذا الأمر البسيط صنع فارقاً، لم تعد حياةً جديدةً، بل أصبحت هذه حياتي، وأشعر دائماً بالرضا والامتنان لهذه الحياة الجميلة والبسيطة التي أعيشها، أعيشها وأنا محاطة بأشكال النعم، وكثير من الحب والتفهم.
وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي أواجهها ويواجهها كل مصاب، وخصوصية تجربة كل مصاب بالحساسية، وعلى الرغم من أني ما زلت أتعلم عن الأمر، إلا أنني عدتُ شابة بصحة جيدة ومناعة قوية، أستطيع تحمل الجهد نوعاً ما، أرتاد جامعتي بشغف بجانب عملي، لا يمكنني وصف سعادتي بذلك، لا يمكن لأي كلمة أن تصف شعوري بالخفة، لا يمكن وصف امتناني للخالق لأن ثورات مزاجي وتقلباته هدأت واستقر عقلي، لا يمكنني أن أكون أكثر رضا، لذا لا أحتاج إلى نظرة الشفقة، أنا لستُ مريضة بعد الآن – إلا فيما علق من تلك الفترة -، وكوني مصابة بحساسية الغلوتين لا علاقة له بالدلع والتظاهر بالرقة.
أتعايش، أتقبل، وأنهار بكاءً أحياناً حينما لا أستطيع مواساة نفسي المنهكة بشطيرة شاورما أو بيتزا جاهزة لا أبذل جهداً فيها، لكني أعتقد إن كل هذا جزء من العملية الكلية، حمل ثقيل نعم، لكنه حبل نجاة أيضاً، إنها معادلة معقدة، من الصعب شرحها، لن تفهمها إلا أن وصلت إلى حافة الموت عدة مرات ثم كتبت لك حياة صحية مجدداً كما السحر. لا يمتلك الناس وعياً تجاه حساسية الغلوتين، وكذلك الكثير من الأطباء، ويبدو إن مزيداً ومزيداً من الأشخاص بصابون بها مؤخراً إثر تداعيات الإصابة بكورونا أو ربما بسبب عاداتنا الغذائية أو الطريقة التي تُصنع فيها المواد الغذائية.
لذا سآمل أن تكون مشاركتي لقصتي تشجع الآخرين على مشاركة قصصهم أيضاً وجعل الأمر أيسر قليلاً على الآخرين لاكتشافه أولاً ثم التعايش معه.