- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المشي إلى الإمام الحسين عليه السلام موسم عبادي.. ما هي آثار هذا الموسم ؟
بقلم: حسن كاظم الفتال
حين نود أن نُشْرِع بالحديث عن الكمال ثمةَ ملمحٌ يستوقفنا ليحتم علينا أن نلفت عناية المتلقي إلى أن القصد من هذا التوصيف هو الكمال النسبي الإنساني المتعلق بشخصية الفرد وليس المطلق. إذ لا شك ولا ريب أن الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى وحدَه.
وهو عز وجل حبا الأنبياء والأوصياء والمعصومين عليهم السلام الكمال ليميزهم عن الخلق بهذا التميز ومَنَّ عليهم بالعصمة وصانهم بها أما الكمال الذي يتحتم على الإنسان العادي أن يبحث عنه أو أن يتمتع به فهو الكمال النسبي حتى وإن عده هو أي الإنسان بأنه الكمال المطلق نسبة إلى حجم الإنسان أو مدى قدرته على التحكم بنوازع النفس أو ميولاتها إذ أنه مخلوق يميل في سيره أحيانا لمجبوليته أو لغلبة أهوائه وهو العاجز تماما عن بلوغ المراتب التي يبلغها غيره من المعصومين والأولياء والأوصياء.
والله سبحانه وتعالى الخالق البارئ المصور الذي خلق فسوى وقدر فهدى وصورنا فأحسن تصويرنا هو الكمال وهو الذي يقدر للإنسان ما يعجز الإنسان عن تقديره وهو القائل عز وجل : ( وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ) ـ الفرقان / 3
إذ هو الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وليس للإنسان إلا ما سعى .. ولكل امرئ ما نوى.
لذا فإن الإنسان المتكامل بالصفات والسجايا والممارسات والسلوكيات وكل ما يشير إلى إنسانيته الحقة وبالشكل التام فيمكن لنا أن نصفه إنسانا كاملا بكمال مطلق بما يتناسب مع مكنوناته ومكانته ومنزلته ومقامه بين المخلوقاتورتبة الكمال هذه إشارة إلى بلوغه أعلى مراحل عفاف النفس عفافا كاملا يبرزه نبذ كل المغريات ومشاكسة كل الإغواءات التي تحرف الفرد عن مسار الصلاح وهي رتبة تنزيه النفس وتنقيتها من كل درن وزيغ لترتقي إلى ما ينبغي لها أن ترقى متخلصة من كل الرذائل أو ما يرتبط بها وهذه الرتبة تمثل توجه النفس العفيفة الخالصة المتجردة المنزهة نحو ابتغاء مرضاة الله ليتسنى لها الفوز بذلك.
وليس للإنسان إلا ما سعى
إن الرغبة في اكتساب صفة الكمال الروحي والمعنوي وكل الكمالات لعلها حالة عامة وقاسم مشترك بين الأجناس البشرية . ويكاد الفرد يجزم أن لا وجود بين المجتمع لمن لا يرغب بالكمال والتكامل أو يبحث عن الكمال .
هذا بعيدا عن اعتماد نسبة الحماس والاندفاع والعزيمة بالبحث عن الكمال أو طلبه وعن تباين مستويات النسب بين فرد وآخر وبغض النظر عن الشذوذ المأمول في كل قاعدة . فحين يرى البعض أن قسما من الناس غيرُ مكترث بهذا المضمون ولم يعتنِ به بل لا يخطر بباله يوما أن يبحث عن الكمال لا الروحي ولا المعنوي ولا النفسي وهو القادر على ذلك .فينطبق عندها عليه قول الشاعر :
ولم ارَ في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
فإن عدم ميل البعض إلى نيل صفة الكمال أو عدمَ الرغبة في تحققه لا يسوغ للآخرين التغافل أو التغاضي أو تجاهل عملية البحث عن مقومات وعناصر ترمز إلى الكمال وتبعد النفس عن كل إمارات النقص
وحين نعمم ذلك فإننا نستثني أي شذوذ لأي قاعدة ولسنا معنيين بمن لا يدرك ماذا
يعني الكمال أو ما ينتج من صلاح وإصلاح للنفوس وللمجتمعات .
والكمال بمعانيه ومغازيه أو ربما بما يفهمه الباحث عنه أو الطالب له التكاملُ والوصولُ لأفضل حال وأتم وأكمل مرتبة أو درجة في تحقيق العبودية لله وحدَه والوصول بذلك إلى معدن العظمة . وقول أمير المؤمنين عليه السلام في مناجاته الشريفة لعله أجل وأروع مصداق لذلك : إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك . وأنر قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، وتصيرَ أرواحنا معلقة بعز قدسك.
شعيرة المشي هل تحقق الكمال؟
بعد أن قادتنا الرغبة لأن نعتلي شرفة من شرفات التعرف على ماهية الكمال وأثره المعنوي على النفس البشرية وكيفية تحقيقه .
أو الإطلاع على جوهر مفهوم أو سر من الأسرار المتعلقة بمكنون الإنسان، بعد ذلك راحت بعض التساؤلات تنسل من مكنون هذه الرغبة او مما توصلنا إليه من نتيجة.. يتصدر تلك التساؤلات سؤال مفاده:
هل عملية ممارسة الشعائر الحسينية بكل مفاصلها وعناوينها ومرتكزاتها وأشكالها وأنماطها ومعطياتها وإفرازاتها يمكن أن تعد عنصرا من عناصر أو محفزا من محفزات تحقق صفة الكمال للفرد ؟.
بتعبير آخر إن نيل مرتبة الكمال ألا يمكن أن يحققه هذا الزحف العظيم لهذه الحشود التي يطلق عليها شرف صفة( المشاية ) التي تلتقي دون أي ميعاد ؟ تلك الحشود التي تتدفق من كل حدب وصوب وتكون أمواجا بشرية عارمة . وهي متجردةٌ من كل صلة ترتبط بالمصلحة الخاصة، متخلية ٌعن كل تعلقاتها بالشؤون الدنيوية، فهي بصدق خالص وبقناعة وافية تعلن جهادها الروحي والنفسي والعقلي لتقوية الصلة بسيد الشهداء عليه السلام وبمنهجه الشريف . وبما أن تقوية الصلة لا تتحقق إلا من خلال تقديم مواثيق وعهود مصدقة ببراهين فقد راحت هذه الحشود بالفعل تقدم المواثيق والبراهين عن طريق زحفها وهي متجردة من كل مصلحة بتضحيتها بكل ما تستطيع متحدية كل الظروف ومتوطنة لمجابهة أي خطر يمكن أن يحدقَ بها . فإذن إن هذه الممارسة توصل إلى صفة الكمال .
لو اعددنا ما تقدم من تساؤلات بأنها تقليدية أو مباشرة أو ربما يعدها البعض سطحية أو بأي توصيف من التوصيفات الأخرى أو عفوية بسيطة فهي ليست كذلك إنما هي بحاجة إلى إجابات مدروسة ومتقنة وتوضيح أكثرَ دقة وتأنيا .
وأنا لست بقادر على ذلك .
إنما أقول :
إن أيسر ما تتمظهر به ممارسة الشعائر الحسينية هو استذكار لصور إنسانية مشرقة رسمها أعظم بطل تاريخي سجل أعظم موقف دفاعي عن الإسلام وأهله وهو الإمام الحسين عليه السلام .
وأفرزت ملحمته الإنسانية العظيمة المشرفة ما لم تفرز أي نهضة على مدى مرور الأزمان .
وحين نستعرض المواقف التي تجسدت في واقعة الطف فلعلنا نعجز غاية العجز عن التوصيف لها .
وأي وصف يمكن أن يوازي وصف قائد أعظم ِركب ماضٍ لتحرير الإنسان من أوجع القيود وآلمها من تلك التي وضعها حكام بني أمية على المجتمع حين وقف قائد هذا الركب العظيم عليه السلام وهو يلوح بسباته الشريفة مشيرا إلى أصحابه بالقول : ( لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي )
ولعل ممارسة الشعائر من قبل البعض الغاية منها مواصلة البر والانقطاع إلى الله وأحبائه بوفاء حقيقي وإعلان الولاء والاستجابة للصرخة والاستغاثة حتى ولو بعد حين .
الاشتراك بالشعائر وإقامتها وأداء مراسيمها ما هو إلا تدوين لموسم عبادي فريد في التأريخ لا مثيل له وثمة مدلولات تبرز مصاديق ذلك فضلا عن شهادات أطلقت من هنا وهناك على مدى التأريخ سواء من أفراد أو من مجتمعات تتمنى الإنتماء لهذا المنهج الإنساني
ليس غريبا أن يكون التعلق بمفاهيم النهضة الحسينية المقدسة والتمسكُ بها غاية التمسك واتباع منهجه المبارك والتخلق بأخلاقيات أهل بيته وأصحابه عليهم السلام مطهرا للنفس ومنزها لها وبالتالي يبعدها عن كل المرديات وتلك حالة يمكن تنتج الكمال.
تجلي المبادئ بالضمائر
إن الخصال التي تحلى بها أصحاب الإمام الحسين عليه السلام تتجلى بهؤلاء الأنصار المشاية . فرغم التزاحم الحاصل لهذه الحشود وكثرة الأعداد التي يتعذر علينا إحصاؤها نجد أن الجموع تتحلى بحسن الخلق وحسن المعاشرة والمطالسة فكم منا يجد البعض لم يتحلَ برحابة وسعة صدر إنما يتغير تماما في مثل هذه الأيام .
وفي مثل هذه الأيام ومع هذا الزحف المليوني الحاشد إنما لم نسمع يوما بوقوع أي جريمة وربما حتى أي شجار بين إثنين وفي حال حصول أي خلاف معين وبغفلة أو سهو فنجد أن الكل يهب لإخماد شرارة ذلك الخلاف . فضلا عن أنه لو وجد أي عارض لأي فرد أو أصيب أي شخص بضرر معين أو تعرض لموقف صعب أو مؤلم معين فإن الكل يبادر إلى إبعاد الضرر عن هذا الفرد . هذا هو التخلق بأخلاقيات أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، فمثلما جند أصحاب الحسين عليه وعليهم السلام أنفسهم ووطنوها ليدركوا الفتح معه وفعلا قد أدركت تلك النفوس الطاهرة الفتح ونالت الشرف العظيم، فإن هذه الحشود وطنت هي الأخرى الأنفس وهي قاصدة بلوغ الفتح .
وأن أولئك المنتجبين الذين اصطفاهم الله عز وجل وقفوا صفا واحدا بل تدافعوا ولبسوا القلوب على الدروع وراحوا يلبون نداء سيد الشهداء عليه السلام يوم الطف حين نادى : ( ألا هل من ناصر ينصر دين الله) . فإن هذه الحشود اليوم هي الأخرى تلبي النداء . إذ أن صوت الحق والخير والرحمة المتمثلَ بصيحة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام لا زال صادحا يدوي يملأ صداه الآفاق مناديا ألا هل من ناصر لدين الله ولازال صوت الباطل المتمثل بأراذل الخلق يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد يرتفع عاليا بالقول اقتلوا : ( أهل هذا البيت واحرقوا بيوت الظالمين ) أي خسة تلك التي تجعل مثل هؤلاء يصفون بيوت الوحي ببيوت الظالمين . وليس أخسَ وأبشع َمنهم إلا اذنابُهم الذين يذبحون اليوم الأطفال والنساء وهم فرحون مسرورن يطلقون صيحات الله أكبر ويفتخرون بارتكابهم ابشعِ الجرائم بحق الإنسانية .
هذه الحشود القادمة من كل حدب وصوب مشيا على الأقدام ترسم صورة ناصعة براقة يخط التماعها على فضاء الواقع عبارة ( لبيك يا حسين ) أي أننا نعاهد بالسير على الدرب مهما كان الثمن غاليا والتضحية جسيمة
هذه المسيرة التي لا تشابهها مسيرة في أي بقعة من بقاع الدنيا ألا تمثل الإعلان عن تجنيد كل الطاقات جسدية ونفسية وفكرية وعقلية ومن أجل انتهاج منهج الإمام الحسين عليه السلام .واستمرارية لتطبيق شعاره العظيم إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي
ها هي امة جده تمتثل لهذا الإصلاح وتجاهر ببيان تحقيقه وتعلن لإمامها الحسين عليه السلام الإمام المعصوم المفترض الطاعة بالإشارة بأنه صلوات الله وسلامه عليه قد حقق أهدافه غاية التحقيق
إن هذه الظاهرة الحسينية العظيمة أي شعيرة التوجه إلى الإمام الحسين عليه السلام مشيا على الأقدام وتلاحم هذه الحشود وتوجهها وجهة واحدة لم تكن مجرد ممارسة خالية من أي محتوى إنما هي مراسيم افتتاح لأبواب مدرسة تعليمية إنسانية فذة تنهل من معينها الأجيال دروسا تلمح إلى إنتشار معالم مكارم الأخلاق
ومنها : التآلف .. التآخي .. التعارف .. الرحمة .. الرأفة .. الشفقة .. التعاون .. الجود والكرم
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات
التوافق الجمعي .. توحيد الرأي .. توحيد الصف .. توحيد الكلمة . والإعتياد على الصبر والتحمل ومجابهة كل الأخطار بكل أنواعها وأشكالها
كل ذلك يتجلى في مبادئ الإمام الحسين عليه السلام التي نهض من اجلها . وكل ذلك يتجلى بذكره صلوات الله وسلامه عليه
فهنيئا لكل ملبٍ لنداء سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ومستجيب لندائه الشريف ونعم الموالون لنعم المولى.