بقلم: القاضي إياد محسن ضمد
مرة تحدث معي احد ضباط التحقيق، اخبرني بأنه يشعر بالاسى لان محكمة الموضوع لا تحكم على جميع المتهمين الذين ساهم بالقبض عليهم وتمت إحالتهم اليها من قبل قاضي التحقيق.
استوقفتني طريقة التفكير هذه طويلا لانها تمثل اكبر المشكلات التي نعاني منها نحن كقضاة، وتكمن هذه المشكلة في ان الاخر أيا كان عمله وجهة انتسابه وهو لا يمتلك الادوات الذهنية والقانونية التي تمكنه من تقييم الادلة الجزائية ووزنها ومن ثم تقدير ما يكفي منها للإدانة، ورغم ذلك ينتقد محاكم الجنح والجنايات حين تفرج عن متهم ما، ويريد تلك المحاكم أن تحكم بناء على تصوراته الذهنية الشخصية وتوقعاته هو، لا بناء على اقتناع القضاة الوجداني المتكون من الأدلة المعروضة في الدعوى التي ينظرونها، ونحن نعلم أن الإجراءات في اي دعوى جزائية تبدأ بالشك في ان هناك شخصا ما ارتكب الجريمة موضوع الدعوى المنظورة امام محكمة التحقيق، وتقطع هذه المحكمة مع جهات انفاذ القانون شوطا كبيرا إجرائيا وزمنيا تقوم خلاله بجمع الادلة واحالة المتهم لمحكمة الموضوع وهي المحكمة المسؤولة عن تقدير قيمة تلك الادلة في الاثبات ووزنها ومن ثم بناء قناعتها الوجدانية بإدانة المتهم لارتكابه الجريمة او الإفراج عنه لعدم كفاية الادلة المتحصلة بحقه.
والقناعة الوجدانية هذه هي حالة ذهنية ونفسية تتشكل في ضمير ووجدان قضاة الجنايات او الجنح تستند الى أدلة الدعوى وتنتهي إلى اليقين بان متهما ارتكب جريمة ما او انه لم يرتكبها.
وان القناعة القضائية الوجدانية هي ثمرة عملية إجرائية ومنطقية تجريها المحكمة والعبرة ليست بكثرة الادلة المقدمة للمحكمة بل بقدرتها في ترك اثر وجداني يساهم في بناء قناعة القاضي لإصدار الحكم وتسبيبه، والعملية هي عملية تفاعلية بين ضمير ووجدان القاضي وحالته النفسية وبنائه الثقافي من جهة وأسباب موضوعية تتمثل في الوقائع المنظورة والادلة المقدمة في الدعوى من جهة أخرى.
صحيح ان القاضي حر في بناء قناعته الوجدانية ومن ثم اصدار الحكم بالادانة او الإفراج، الا ان هذه القناعة تخضع بالنهاية لرقابة محكمة التمييز التي تمتلك صلاحية نقض القرارات وتصويب أخطائها وتتحمل جهات انفاذ القانون مسؤولية عدم تقديم الادلة الكافية لبناء القناعة الوجدانية لمحاكم الموضوع ومن ثم افلات المتهمين من العقاب في حالة وجود خلل او تقصير رافق إجراءات الضبط والقبض والتحري فخذ مثلا ان عملية ضبط لموظف بالجرم المشهود بتقاضي رشوة اذا لم تكن عملية محكمة وان لم تعزز بتسجيلات صوتية وفيديوية ومحضر ضبط لمبلغ الرشوة مع حالة التلبس فان الادلة لن تكون كافية لبناء قناعة المحكمة بالادانة وان ذلك تتحمله جهات التحقيق التي لم تحسن عملية الضبط وجمع الادلة الصحيحة حتى وان كان المتهم معروفا بتقاضيه الرشوة لان قناعة محاكم الموضوع لا تبنى على الاخبار والتصورات والاعتقادات الشائعة وانما تبنى على ما يقدم في الدعوى من ادلة قانونية صحيحة.