- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
تأملات في المالية العامة الموازية
بقلم: د.مظهر محمد صالح
تمهيد :
صفة التوازي في المالية العامة ربما هو استخدام نظري مستحدث يأتي للتعرف على بعض المظاهر التاريخية في انحراف المالية العامة ولاسيما في الأمم الشديدة الريعية والتي تفصح عن مشكلاتها بالغالب الأزمات والدورات الاقتصادية الخارجية وتؤدي إلى تدهور معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي في بلدانها وشيوع البطالة والفقر وانتشار ظواهر الاعتداء على المالية العامة بأساليب وسلوكيات تعارض الحقوق القانونية.
فالمالية العامة (الظلية shadow) او الموازية parallel fiscal ان جاز لي التعبير هي ظاهرة مالية غير رسمية تتنامى مخاطرها ويتسع نفوذها بخطى متسارعة في الامم الريعية.
كذلك هي متلازمة تشاركية سالبة ترافق بالغالب قوة تطبيق مايسمى بالمفهوم الواسع او المعدل للسياسة المالية الانكماشية في الاقتصادات الاحادية augment contractionary fiscal policy والتي تقوم على تعاظم الضريبة التضخمية كوسيلة لتمويل العجز المستدام (دون اللجوء إلى التقشف المخطط) سواء بخفض القيمة الخارجية للنقود (تعديلات سعر الصرف) لمصلحة تمويل الموازنة وما يتركه من اثار تضخمية او التمويل بالوسائل النقدية الاقتراضية واستخدام ضريبة التضخم.
ففي بلادنا الشديدة الريعية التي يشكل الإنفاق العام قرابة٤٠٪ -٤٥٪من الناتج المحلي الإجمالي وهيمنة الدولة على قرابة ٦٥٪ من ذلك الناتج وتساهم ريوع النفط بقرابة ٩٣٪ من اجمالي ايرادات الموازنة العامة، فان هبوط الموارد النفطية إلى النصف حاليا جراء الازمة المالية والصحية العالمية الراهنة مع تعاظم فجوة عجز تزيد على ٢٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي، والتي يصعب تمويلها الا بالسياسات والوسائل النقدية، فهو امر سيتحقق لامحال اذا ما استمر تمويل عجز الموازنة العامة على وفق آلية تنقيد الدين العام public debt monetization.
اي ركون السياسة المالية والاعتماد على الوسائل النقدية في سد العجز المالي من خلال الاقتراض بالتمويل النقدي والتوسع به (عبر آلية سد العجز الحكومي باساليب تمويل منفردة يمثلها تنقيد الدين كما نوهنا آنفاً).
اذ يؤدي التمويل من خلال تنقيد الدين العام الى تكاثر اسمي في النفقات العامة عبر سد فجوة العجز ولكن بقوة شرائية متناقصة للنفقات الحقيقية نفسها، ما تجعل المتاح من الدخل الحقيقي في مستويات منحدرة او هابطة تنعكس آثارها على مستوى المعيشة وتحدث في الوقت نفسه اثر سالب للثروة negative wealth effect.
فثبات الأجور والمعاشات في سقوف الدخل الاسمي ولاسيما للقوى العاملة الوظيفية التي تقود هيكلة الاجر في بلادنا ستؤشر تدهور الدخل الحقيقي (المقيس indexed بالتضخم) وتعكس بالوقت نفسه مايسمى بداخلية الاساس النقدي endogenous والذي تحدثت عنه المدرسة الكنزية الحديثة من خلال العلاقة بين التوسع النقدي كمتغير تابع يتنامى في ظل تاثير تمويل العجز بالموازنة العامة، ليؤكد دور السياسة المالية في التأثير بالمستوى العام للأسعار. اذ ستشكل المالية العامة هنا المتغير الخارجي exogenous المؤثر في تطور هيكل التوقعات التضخمية والبناء التصاعدي المستمر، في المستوى العام للأسعار. فارتباط الانفاق وميلان سد فجوة العجز بتنقيد الدين العام (أمام عجز الناتج المحلي الاجمالي وتدني مستويات النمو) ستصبح الرافعة الأساسية في ادامة العلاقة بين توسع الأساس النقدي والتضخم نفسه.
وبناء على ما تقدم، فقد مرت (المالية الموازية) خلال العقود الاربعة الماضية بمرحلتين تاريخيتين في بلادنا وعلى النحو الآتي:
الأولى: وهي مرحلة (الحيازة) الوظيفية holding: وهنا يؤشر تاريخ تطور المالية العامة الموازية في بلادنا كتاريخ مالي طويل حالة مفعمة بالتناقضات، اذ تمتد جذوره إلى حقبة الاضطراب الاقتصاد في تسعينيات القرن الماضي ومرارات الحصار الاقتصادي الدولي.
ففي حصار التسعينيات عانى الكثير من العاملين في حقل الوظيفة الحكومية تحت طائلة استمرار التضخم الممول للعجز في الموازنة. فتدني القوة الشرائية لمعاشاتها وبؤس دخولها ومرتباتها تحت تضخم سنوي جامح لم يقل معدله عن ٥٠٪ على مدار عقد ونيف من الزمن ما جعلها تحت مطرقة التضخم وتدهور القوة الشرائية للدخل الاسمي. ولم يبق من يكابد بالراتب الشهري الحكومي الضئيل ومستمراً بالوظيفة العامة سوى صنفين من الموظفين اوالعاملين بالوظائف الحكومية، الاول، وهو (النزيه) ومن لا مهارة له في اقتصاد السوق سوى التشبث بالوظيفة والتعايش مع التدفقات الشهرية المنخفضة، والاخر، وهو (المخاتل) من له القدرة على تحويل الموقع الوظيفي وتسخيره للعمل على وفق آليات السوق. فاستبيحت المواقع الوظيفية مهما صغر دورها او كبر.
وكانت الوظيفة والاستمرار بها في خضم الاضطراب الاقتصادي وشيوع الفقر والتضخم ابان التسعينيات هي بمثابة شرارة من شرارات تاسيس مظاهر الفساد المالي والاداري، اذ تحول المركز الوظيفي من خدمة عامة باجر لائق في ظروف اقتصادية مستقرة (الى حد ما) الى حيازة holding او تمليك ناقص وبريوع مفتوحة لتعويض الدخل النقدي جراء التضخم وتاكل الدخل والاضطراب الاقتصادي ولاسيما للصنف الثاني من الموظفين الحكوميين.
فالحيازة الوظيفية للموقع الحكومي holding بات سلوكا ً سلبياً في فهم الوظيفة العامة لدى الكثير حتى الوقت الحاضر وأمسى المرادف للمالية العامة الموازية parallel fiscal واتخذ منهم مناخات وأبجديات الوظيفة العامة كوسائل عمل واتصال مختلفة في الاستحواذ او التملك بعد ان تغلف بعضها بدور المكاتب الاقتصادية للاحزاب ومشاركتها كقوى مالية موازية parallel fiscal في مرحلة لاحقة سنتناولها، سواء في الانفاق الغامض وتجير حصص غير معروفة من النفقات العامة لمصلحتها او بناء الإيرادات المنحرفة او بالاحرى تحقيق مغانم من خلال انحراف الايرادات العامة نفسها واستقطاع مواردها المتدفقة عند المنبع اوعبر المسار المالي التقليدي وبنسب مختلفة قبل بلوغ الاموال الخزينة العامة كايراد نهائي للموازنات الرسمية، ما عظم هذا السلوك من الاستحواذ على المال العام من فجوة العجز وزاد من تكاليف الانفاق وضيق من مفهوم السيطرة والاستدامة المالية.
وبهذا فقد رسخت المالية العامة الموازية افعال من الحوكمة المالية الرسمية السيئة bad fiscal governance وفسحت المجال لها وعملت على مأسست المالية العامة الموازية Parallel fiscal institutionalization ولكن باذرع شبه رسمية وهي ظاهرة يطلق عليها بشيوع مايسمى بالمكاتب الاقتصادية للحركات والقوى السياسية لتحل محل الحيازة الوظيفية الريعية المذكورة آنفاً ابان فترة الحصار او holding.
وهي سمة مؤسساتية خطيرة من مؤسسات الدولة العميقة في ضرب مرتكزات التوزيع العادل في الموازنة الرسمية وبناء أهدافها في الاستقرار والتنمية ولكن لمصلحة كتل سياسية بعينها تتقاسم الموارد العامة كافة بحصص سواء من عوائد نفطية او غير نفطية (بما في ذلك الاقتطاع عند المنبع المالي) او المشاركة في التدفقات المالية الناجمة عن تنقيد الدين العام في سد العجز في مستويات تحصيل وانفاق مختلفة.
وهكذا غدت ظاهرة (مأسسة المالية العامة الموازية) في بلد ريعي مثل العراق احد اخطر مظاهر المالية العامة وارتفاع شراسة التعدي على المال العام بفعل القوى الموازية المنظمة فيها لمصلحة تمويل قوى اللادولة.
المرحلة الأخيرة من المالية العامة الموازية: من (الحيازة) إلى (الزبائنية الريعية)، وهي بمثابة المرحلة الأخيرة من المالية العامة الموازية.
حيث انتهت بلادنا إلى ظاهرة خطيرة هي اكثر اتساعاً وعمقاً تجذرت فيها (المالية العامة الموازية) وتحولت هذه المرة من (الحيازة المالية) إلى ظاهرة مستحدثة وخطيرة ذات ابعاد سياسية مؤسساتية وهي:
(الزبائنية الريعية Rentals Clientalisme)
وتعد اليوم من اخطر نماذج المالية الموازية والتي تقوم على تبادل المصالح بين المؤسسة الحكومية وفريق او مجموعة سياسية مناصرة تستحوذ على نفقات الكيان الحكومي وإيراداته عبر تسلسلات مالية عمودية غير مباشرة او أفقية مباشرة من خلال اشغال وظائف عامة او السماسرة او المريدين ومن ثم تتحول الحركات والقوى السياسية في نفوذها وأذرعها إلى حيازات ريعية داخل مؤسسة الدولة تشارك السياسة المالية أهدافها ومساراتها بازدواجية خطيرة ترفع من كلفة الإنفاق العام في الاستقرار والتنمية وتعمق من العجز المالي.
أقرأ ايضاً
- أهمية التحقيق المالي الموازي في الجرائم المالية
- جرائم الإضرار بالطرق العامة
- شرط (حسن السيرة والسلوك) في الوظائف العامة.. شرط قانوني ام إسقاط فرض ؟