بقلم: أنس بن فيصل الحجي
هذا مجرد سيناريو، وليس توقعاً، ولكن لا يمكن تجاهله؛ لأنه محتمل الحدوث. من الشائع اللجوء إلى تبني سيناريوهات مختلفة، خاصة في الفترات التي تزداد فيها ضبابية السوق. واللجوء إلى السيناريوهات يختلف نوعاً ما عن التوقعات المبنية على نماذج رياضية وبيانات تاريخية. فالتوقعات قد تكون أفضل، وأدق، ولكن ليس في ظروف كالتي يشهدها العالم الآن. وفي مقال اليوم سيتم التركيز على أسوأ سيناريو في أسواق النفط وآثاره ونتائجه.
الإنتاج/ المعروض
في هذا السيناريو يعود النفط الليبي بشكل أسرع، وبكميات أكبر مما تتوقع “أوبك” بـ400 ألف برميل يومياً على الأقل، حيث يتجاوز مليون برميل يومياً. ويرافق ذلك زيادة في صادرات إيران وفنزويلا عما كانت عليه في شهر سبتمبر (أيلول)، حتى لو كانت الزيادة “ظاهرية”، وليست فعلية (النفط الذي سيتم تهريبه في الخفاء يظهر للعلن فيظن العديد أن هناك زيادة فعلية، فيضغط ذلك على الأسعار). الفكرة هنا أن إيران وفنزويلا والصين ستختبر المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية، جو بايدن. ولا يمكن لبايدن، الذي عارض سياسات الرئيس دونالد ترمب تجاه هذه الدول، وعارض العقوبات على إيران، أن يقوم بتطبيق عقوبات ترمب. أما إذا فاز ترمب بولاية ثانية فسيكون مشغولاً بإعادة ترتيب الصف والأولويات، وستحاول هذه الدول استغلال فترة انشغاله، إما للاستفادة مادياً وسياسياً، وإما لتشتيت جهوده. وعلينا ألا نستغرب إذا فاز ترمب أن يلتقي شخصياً الرئيسين الإيراني والفنزويلي، الأمر الذي قد ينعكس إلى نتائج سلبية على أسواق النفط على المديين المتوسط والطويل.
يرافق ذلك زيادة ملحوظة في عدد الحفارات، وعدد الآبار المكملة، وعدد فرق الحفر الهيدروليكي في حقول الصخري، خاصة حقل برميان في غرب تكساس، وزيادة أكبر من المتوقع في إنتاج النفط الكندي. هذا لا يعني في النهاية زيادة في إنتاج النفط الأميركي، ولكن يعني أن الإنتاج سيكون أعلى من المتوقع.
كما أن عدة دول من “أوبك+” لا تقوم بتخفيضات إضافية للتعويض عن زيادة الإنتاج في الفترات السابقة، كما ترفض أي جهود في ديسمبر (كانون الأول) المقبل لإبقاء الإنتاج في الربع الرابع كما هو في الربع الأول من 2021، بحيث تصر على أن تستمر خطة “أوبك+” كما هي، وتتم زيادة الإنتاج.
وبغض النظر عمن سيفوز بالانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن الحكومة الأميركية ستعود إلى بيع جزء من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي لتمويل تكاليف الإدارة، طالما أن أسعار النفط الأميركي فوق 45 دولاراً للبرميل.
الاستهلاك/ الطلب
في هذا السيناريو، تقوم عدة دول ومدن كبيرة بالعودة إلى الحظر الكامل، أو الجزئي، فينخفض الطلب على النفط عما كان متوقعاً. وتنخفض هوامش أرباح المصافي، فتقوم بتخفيض طلبها على النفط الخام، حتى في بلد لا يعاني انتشار كورونا، مثل الصين. وبسبب فيروس كورونا من جهة، وانخفاض أسعار النفط من جهة أخرى، تنخفض الأنشطة الاقتصادية في الدول النفطية، وينخفض طلبها على النفط، الأمر الذي يشكل فائضاً يمكن تصديره، ويهدد نسب الالتزام بحصص “أوبك+”.
ونتيجة هذه التطورات، ترتفع مستويات المخزون وتنخفض أسعار النفط. فهل تقوم “أوبك+” بجولة أخرى من المفاوضات وتخفيض الإنتاج؟ هذا الأمر ممكن. هل تستمر “أوبك+” في خطتها وتتجاهل هذه التطورات؟ الجواب: هذا الأمر ممكن أيضاً. هل سيقع بينها الخلاف، وتعود حرب الأسعار؟ الجواب: هذا الأمر ممكن أيضاً. هل من حل وسط بين هذين النقيضين؟ الجواب: هذا الأمر ممكن أيضاً. وإذا استخدمنا نظرية الاحتمالات وافتراض أن كبار المنتجين سينظرون إلى المصلحة العامة للسوق، على الرغم من عدم التزام بعض الأعضاء، فإن نسبة حدوث الاحتمال الأخير، الوصول إلى حل وسط، هي الأكبر.
وهنا لا بد لي من الإشارة إلى نقطة تجاهلها بعض الساسة العراقيين المُعادين لفكرة التعاون مع “أوبك+”، وتخفيض الإنتاج، ويرغبون في أن يقوم العراق بالإنتاج بأقصى طاقته الإنتاجية، أن المقارنة ليست بين إنتاج 3.7 مليون برميل بسعر 40 دولاراً وإنتاج 4.5 مليون برميل بسعر 40 دولاراً. المقارنة يجب أن تتم مع إنتاج 4.5 مليون برميل وسعر 10 دولارات، وما حدث في مارس (آذار) الماضي ليس علينا ببعيد. قد يرى البعض أن نسبة احتمال هذا ضعيفة، ولكنهم لا يستطيعون إنكار احتمال حدوثه. المشكلة بالنسبة لبعض السياسيين أن خروج العراق من “أوبك” لا ينفي حدوث هذا السيناريو إطلاقاً! بعبارة أخرى، خروج العراق من “أوبك” لن ينقذه من حرب الأسعار على كل الحالات.
الشيء المؤكد أن انخفاض الأسعار سيجبر شركات النفط على تخفيض إنفاقها الاستثماري مرة أخرى عما كان مخططاً، وسيعود عدد الحفارات وعدد الآبار المكملة في الولايات المتحدة إلى الانخفاض، كما سيتم تأخير الانتهاء من بعض المشاريع الكبيرة حول العالم.
كما أن انخفاض الأسعار سيشجع الصين على تسريع مخططها لبناء مخزون استراتيجي ضخم من النفط، فتستغل الفرصة، وتشتري المزيد منه. وهنا قد تظهر عدة مشاكل. المشكلة الأولى أن انخفاض أسعار النفط لن يشجع النمو في الطلب العالمي على النفط بسبب “مصيدة الطلب”. ويُقصد بـ”مصيدة الطلب” أن انخفاض أسعار المنتجات النفطية، أو ارتفاع دخول الأفراد، لن يرفع الطلب على هذه المنتجات. وفي حال الحظر الحكومي، فإن تخفيض الأسعار وارتفاع الدخول لن يزيد الطلب على البنزين، مثلاً. حتى من دون حظر حكومي، البعض لن يسافر مهما انخفض سعر البنزين، أو انخفضت أسعار تذاكر الطائرات، خوفاً من العدوى.
المشكلة الثانية أن انخفاض طلب المصافي الأميركية على النفط الخام يعني ارتفاع صادرات النفط الخام الأميركي بأكثر من المتوقع، في الوقت الذي تنخفض فيه الواردات. وانخفاض الطلب على المشتقات النفطية في الصين والهند يعني زيادة تصديرهما للمشتقات.
المشكلة الثالثة أن الدول النفطية قد ترى في شراء الصين لنفطها حلاً للحصول على إيرادات إضافية، إلا أن على الدول النفطية أن تفكر استراتيجياً في هذا الأمر ولا تجعل الحاجة الماسة للإيرادات هي التي تحكمها. لماذا؟ لأن الصين ستستخدم هذا النفط الاستراتيجي لمنع أسعار النفط من الارتفاع، وربما تخفيضها. بعبارة أخرى ستمنع الدول النفطية من تحقيق إيرادات إضافية في وقت يمكن فيه تحقيقها بسهولة، كما أنها ستصبح المتحكم الرئيس في أسواق النفط بدلاً من دول “أوبك+”.
لنختصر ما لدينا حتى الآن: زيادة في الإنتاج، وانخفاض في الطلب، وانخفاض في الأسعار، يليه التخزين الاستراتيجي في الصين، ولكن انخفاض الأسعار لن يرفع الاستهلاك العالمي على النفط بسبب “مصيدة الطلب”. وينتج عن ذلك زيادة صادرات النفط الخام الأميركي، وزيادة صادرات المشتقات النفطية من الهند والصين.
في ظل هذا الوضع سيرتفع المخزون العائم مرة أخرى، وسترتفع مستويات المخزون، خاصة في الولايات المتحدة. ارتفاع المخزون العائم والتجاري يضغط على أسعار النفط في فترات مقبلة. بعبارة أخرى، ارتفاع المخزون في الربع الأول من العام المقبل يعني الضغط على الأسعار في الربع الثاني. انخفاض أسعار النفط حتى منتصف العام المقبل سيضع اقتصادات الدول النفطية في ضائقة شديدة.
إذا تحقق هذا السيناريو، أو ما يماثله ما السياسة المثلى لـ”أوبك+”؟ الجواب يعتمد على هدف “أوبك+”، وتوقيت هذا الهدف. فإذا كان الهدف هو تحقيق استقرار أكبر في الأسواق على المديين المتوسط والطويل، فإن الأفضل هو الاستمرار بالخطة الحالية كما هي، والتي تتضمن زيادة الإنتاج ابتداءً من أول العام المقبل “هي في الحقيقة تقليص التخفيض الذي تم الإتفاق عليه في أبريل (نيسان) الماضي”، وترك الأسعار تنخفض حتى تنتهي عمليات الحظر، وتبدأ مصيدة الطلب بالتقلص، ويبدأ الطلب العالمي بالنمو مرة أخرى. في ظل “مصيدة الطلب”، أي تخفيضات إضافية لن تسهم في استقرار أسواق النفط، ولن تسهم في رفع أسعار النفط بشكل ملحوظ.
انخفاض أسعار النفط مرة أخرى سيزيد من المشاكل الاقتصادية في الدول النفطية، ولكن لفترة قصيرة، حيث إن استمرار انخفاض الاستثمار العالمي في عمليات التنقيب والإنتاج وانخفاض إنتاج النفط الأميركي سيسهم في زيادة الحصة السوقية لدول “أوبك”، وسيرفع أسعار النفط، الأمر الذي سيرفع إيرادات النفط لعدة سنوات. موجات الاندماج الحالية بين شركات النفط في كل من الولايات المتحدة وكندا، ستساعد في ذلك أيضاً لسببين، الأول أنها ستنشغل في الفترة الحالية في عمليات الاندماج والاستحواذ بدلاً من زيادة الإنتاج، والثانية أنه سينتج عنها كيانات كبيرة ستتصرف بشكل أعقل من الشركات الصغيرة، وبالتالي فإنها ستركز على تخفيض التكاليف وتحقيق عوائد للمستثمرين، بدلاً من الاستمرار في زيادة الإنتاج، كما حصل في الماضي.
خلاصة القول، أسوأ سيناريو يعني استمرار معاناة اقتصادات الدول النفطية، ولكن عودة أسعار النفط للانخفاض ليست شراً كلها، بل ستضمن عائدات أعلى لفترة أطول مستقبلاً تمكن هذه الدول من تطبيق خططها التنموية.
أقرأ ايضاً
- توقعات باستهداف المنشآت النفطية في المنطقة والخوف من غليان أسعار النفط العالمي
- انخفاض اسعار النفط وهدهد سليمان القادم من الصين
- النفط.. مخالب في نوفمبر وعيون على الرئيس القادم لأمريكا