قُبيل أن نفتحَ نوافذ سيرة الملا حسين التريري، نلحظ إن الكثيرين يشتبهون بصوتِه ظنا منهم إنه صوت الملا الراحل الرادود حمزة الزغير (رحمه الله)، والملا التريري ذاك الصوت الشاب، الصادح بذكر مصائب العترة المحمدية (عليهم السلام) الصوت ذو النغم العالي والطبقة الرخمة التي أخلفت المنبر الحسيني عقب وفاة الملا حمزة الزغير عام 1976م، وهو ذاته الصوت الحسينيُ الذي لم يكن مقلدا للملا الزغير بالأداء والصوت؛ إلا إن القدرة الإلهية جعلت من صوته الجميل أكثر قربا من صوت الملا حمزة الزغير، وحيث جرت العادة إن يخلفَ المنبر الحسيني رادودا (منشدا) مكان الرادود الراحل على ان لا يَقلُ عنه أداءً وصوتا وموهبةً وإبداعا..
ويقول الحاج فاضل الخفاجي من أبناء مدينة كربلاء إن \"الملا حسين التريري من أسرة كربلائية قديمةٍ قطنَت جدودها مدينة الحسين (عليه السلام) منذ القرن العاشر الهجري، وينتسبون الى عشيرة الخفاجة، وهذه الأسرة تشتغل بالزراعة منذ أن حلت كربلاء، ومن آثارها نهر التريري\". مبينا إن الملا حسين التريري كان من الوجوه المعروفة بالصدق ونقاء الضمير وتمسكه بالتقاليد الإسلامية المورثة، وهو منصرف إلى خدمة المنبر الحسيني وإشاعة فكر أهل البيت (عليهم السلام) من خلال إذاعته وإنشاده للعديد من الشعراء الذين مزجوا بين طابع العقيدة والمصيبة في نظم القصائد الحسينية\" ..
[img]pictures/2010/12_10/more1293529457_1.jpg[/img][br]
فيما يقول شقيقه علي التريري إن \" اسم الملا هو عبد الحسين أبن أحمد بن علوان بن حسين الخفاجي المولود سنة 1957 كربلاء بمحلة المخيم، من أسرة عدد أفرادها سبعة أشخاص كان هو ثاني أخوته الخمسة، أما التريري فهو لقب ألحق بأسرة الملا كسائر باقي الألقاب التي ألحقت بذات العشيرة مثل بيت كلثومة التي ينحدر منها الشاعر الحسيني عبد الرسول الخفاجي، وبيت الهر وغيرها العديد من الأسر، أما نشأته فكانت في محلةٍ أخرى هي باب بغداد حيث سكنت أسرته فيها فترة بسيطة لحين أكماله الدراسة الابتدائية في مدرسة الهاشمية حتى سنة 1967 ثم انتقلت أسرته سنة 1974 الى محلة باب السلالمة واستقرت بها الى يومها هذا\".
مضيفا إن \"الملا حسين نشأ منذ صباه عاشقا للقراءة الحسينية ومحبا للإنشاد محاولا أن يصنع من شخصه حسينيا حاضرا في المستقبل فأخذ ينشد الكثير من صغره القصائد والموشحات، فاشتدَ عوده حسينيا متأثرا بالملا حمزة الزغير حتى أعتلا المنبر سنة 1970 في محلة باب بغداد فأجاد وغُبِطَ على أداءه وسجاياه، كما كان يبادر النصيحة، ويتوددُ لزوار الحسين (عليه السلام) في كل حين، ولم يعتذر قط عن مجلس حسيني، ولم يفرق أيقرأ لفقير أم غني\"..
ويقول الشاعر الحسيني حسين عبد هادي \" لقد ترعرع الملا التريري في بيئة شعبية تعرف بمحلة باب السلالمة، أحد المجتمعات الاجتماعية الحسينية التي تمارس الطقوس العاشورائية وتؤدي الشعائر الحسينية وهي ذات البيئية التي أفرزت نجم الخطابة الحسينية الشيخ هادي الخفاجي الكربلائي (رحمه الله)، أما التريري فقد أكمل دراسته الأكاديمية في جامعة المستنصرية، وحاز على شهادة البكالوريوس من كلية الآداب قسم علم النفس، وعمل موظفا في مكتبة الجامعة ببغداد..
ويتأمل عبد الهادي لحظاته فيقول \"حينما نقف على أطلال ذاكرة الملا التريري ونقلب صفحاتها يتضح أنه كان منذ نعومة أظافره مولعا بالقراءة الحسينية ودؤوبا على حضور المجالس الحسينية أينما أقيمت\"..
فيما ذكر الحاج ناظم السماوي مَن كان يسجل القصائد الحسينية التي أنشدها الملا التريري، بأن \"الملا بدأ شبابه مولعاً بحفظ القصائد الحسينية التي كان يلقيها الرواديد آنذاك، ولولعه الشديد بحب القراءة، كان يردد تلك القصائد والأوزان أثناء عمله وفراغه وتجواله، ولم نسمع أنه تتلمذ على أحد مِن قراء المنبر الحسيني آنذاك، فكان يرى في نفسه موهبةً وقابلية تؤهله اعتلاء المنبر والقراءة، حتى أعتلى المنبر في محلته عند ديوان شهيب أحد المعالم المأثورة في المدينة، وتم تسجيل أول القصائد التي قرأها حينذاك من نظم الشاعر عبد علي الخاچي، حيث المكان الذي كان يقرأ فيه الملا حمزة الزغير لعزاء أهالي هذه المحلة أيام شهر محرم الحرام وصفر، كما وقرأ في الكويت وبذات الحسينيات التي أعتلا المنبر فيها الملا حمزة الزغير أيضا\"..
ويضيف السماوي بأن \"نجم الملا حسين الزغير برز في النصف الثاني من العقد السابع للقرن العشرين، وكان متفردا بأدائه وشاغرا للساحة الحسينية، فبات علماً من أعلام المنبر الحسيني وأشهرهم استماعا، وكانت أغلبية القصائد التي قرأها من كتابة الشاعر المرحوم عبد علي الخاچي وأمير الشعراء الحاج كاظم المنظور كما قرأ من نظمِ الشاعر عبود غفلة، وسعيد الهر والشاعر كاظم السلامي وسليم البياتي وعزيز الگلگاوي، ومن الشعراء الذين قرأ لهم أيضا الشاعر جبار البنا والشاعر مهدي الأموي صاحب القصيدة العقائدية المشهورة (سورة التوحيد تحرير العقول)، وقصيدة (بزغ صاروخ المنايا وشب عله ألحومه وشعله)، كذلك قرأ للأديب محمد زمان قصيدة كتبها التاريخ بماء الذهب فكانت(يا شهابا نازفا نورا وآيا) وكذلك قرأ لشعراء آخرين\"..
ويعود فاضل الخفاجي فيؤكد إن \"الملا حسين الزغير ليس منشدا (ملا) بالمعنى المألوف للكلمة، فالإنشاد بالنسبة له كسائر شؤون حياته التي نذرها لخدمة الحسين (عليه السلام)، انعكاسا للخبرة المُعبِّرة عن ينبوع حبّ كامن، أنعكسَ هديلا ناعيا بشجوٍِ وأنينٍ، فكان الإبداع رفيقه ويحلُ عنده، ولم يكن حكرًا فهو موهبة أودعها الله تعالى به بعد رحيل الملا الكبير حمزة الزغير (رحمه الله) ليؤكد أنَّ استمرارية كل عمل يرتبط برَجلِ كل مرحلة، والتريري كان بعد الملا حمزة الزغير فارس الساحة الإنشادية التي أخذت من حياته الحسينية محطة لم تدم إلا ثلاثة أعوام\"..
التريري رادود الساحة الحسينية عقب الملا حمزة الزغير
الملا حسين الزغير أحرز إعجاب المجتمع بمختلف مستوياته الثقافية والعلمية فأعاد الى المنبر بصوته الصداح حياةً ألفها الشارع الحسيني بعد رحيل عميد المنشدين الحسينيين ملا حمزة الزغير فسمي بالملا حسين الزغير لأنه أستطاع جذب الناس من جديد لعذوبة وشجي صوته ذو النبرة الحسينية، المعّبرة عن مأساة واقعة الطف، فأخذ يعتلي المنابر الحسينية ويتنقل تدريجياً إلى الشهرة التي أستحقها بجدارته المتأصلة في قراءته وأسلوبه، ووصل أوج عظمته، علماً أنه لم توجد في ذلك الوقت أجهزة صوتية متطورة كالتي موجودة في الوقت الحاضر، لتعطيه من الجمال والحلاوة في الأداء ..
ويؤكد الشاعر حسين عبد الهادي، أنه \"بعد رحيل الملا حمزة الزغير ظهرت كوكبة من المنشدين الحسينيين على الساحة الكربلائية ومنهم الحاج عبد الأمير الأموي والرادود ملا محمد حمزة الكربلائي؛ لكنَّ حادثة أخلافِ الملا حسين التريري كخير خلف لخير سلف أمام حشدٍ كبير وبين الحرمين الشريفين، بواسطة الملا حمزة السلامي الذي كان من أعلام الإنشاد الحسيني حينذاك، إلا إنه توقف عن القراءة في أيام مشيبه، حيث بادر السلامي بوضع عقال الملا حمزة الزغير على رأس الملا التريري، بحضور الشاعر مهدي الأموي والعديد من الحسينيين ووجهاء الأطراف، فجرت على ألسن الوسط الحسيني تسمية الملا حسين التريري بحسين الزغير لأنهم بصروا فيه عودة الملا حمزة (رحمه الله) فأصبحت مجالسه عامرة بالجماهير من الرجال والمشايخ والأطفال في مساجد كربلاء وحسينياتها ودُورِها وأسواقِها، فضلاً عن مجالسه في مدن العراق الأخرى\"..
ويضيف عبد الهادي إن \"الملا قرأ لمدن الفرات الأوسط والجنوب باستثناء مدينة النجف الاشرف التي لم يقرأ بها الملا التريري، فأستطاع أن يشغل الساحة الحسينية لفترة قصيرة لم تتجاوز ربيعها الثالث، وأصبح لمجالسه حضورا كبيرا، فكان يعتلي المنبر في كثير من المجالس الحسينية بعد محاضرة الشيخ الخطيب هادي الكربلائي الخفاجي (رحمه الله) وكان الملا التريري مرارا ما يتأخر على مجالس الشيخ الخفاجي بسبب كثرة مجالسهِ الحسينية خلال شهري محرم وصفر، الأمر الذي كان يستدعي من الشيخ الخفاجي (رحمه الله) إن يطيل في عمر مجلسهِ حتى مجيء الملا حسين الزغير\"..
ويشير السماوي \"كان لكل رادود في الساحة الحسينية مَن يضع له الأطوار، أي لحن القصيدة، أما الملا حسين الزغير كان كثيرا ما يضع بنفسه أطوارا للقصائد التي ينشدها على المنبر الحسيني كما كان يبتكر الأطوار التي تحاكي الحداثوية وتحمل نكهة التراث فكان امتدادا للمدرسة الحسينية\"، لافتا أنه \"كان يقرأ القصيدة الحسينية في أي وقت من أيام السنة ولم يقتصر على شهر محرم الأحزان أو صفر فقرأ المئات من القصائد الحسينية؛ ولكن لم يسجل منها إلا 37 قصيدة لأسباب منها أمنية ومنها لأنه لم يكن يعر الأهمية في أن تسجل قصائده أو لا؛ بل كان كثيرا ما يطيل في مجالسه لشدة تفاعله واندماجه مع أجواء القصيدة، ومعايشته روايتها وأحداثها، وكثيرا ما كانت عَـبرَته مذروفة خلال قراءته المنبرية\" ..
التريري جوهرة منبرية غَيّبها نظام البعث بغياهب السجون..
ويوضح علي التريري بأن أخاه قد \"عملَ خادما للحسين (عليه السلام) وخَدم المنبر وساهم بشكل فعلي في إحياء ذكرى استشهاد الإمام (عليه السلام) ليس بقراءته فقط بل بولائه وانتمائه للمدينة التي احتضنت سليل خاتم الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهما) فكان يشارك الحسينيين همومهم وآهاتهم ويبادل الزيارات واللقاءات الحسينية في العلن والخفاء، وكان ينهل من صبر إمامه فيصبر الآخرين ويحرص بمواصلة الطقوس العاشورائية والعبادية للمدينة ويشارك في أعداد الموائد الحسينية، ولم يكن يبالي الى وضعه المادي بقدر ما كان يراعي أهمية المشاركة بالخِدمة الحسينية، وحيث كان يعمل فلاحا لإعانة والده في بستانهم، كان يزرع البسمة والبهجة في أيٍ من الأماكن التي يكون فيها، ببشاشته وخفة ظله ومراعاتهَِ لجَني السعادةِ والفرحةِ حيثما كان وأينما هَلَ\"..
مبينا أنه \"طالما عشق صوته الجمهور الحسيني؛ لكن نظام البعث البائد كان له رأيا آخر بعد أن قرر إسكات تلك النجومية باعتقاله، فتم اعتقاله في الشهر التاسع من عام1981م وانقطعت أخباره عن العالم، وأصبح حبيس الغموض لا يـُعرف شيء عنه سوى إنه معتقل\".
مؤكدا إن الملا \"ظل حبيسا في سجن تحت بناية الاستخبارات العامة في كربلاء وكانت أخباره تصل بين الفترة والأخرى ومات هنالك بعد قصف بناية الاستخبارات إبان الانتفاضة الشعبانية وانهالت المياه على السجناء فماتوا غرقا واختناقا وكان بينهم الملا التريري\"..
كلما تصفحنا في سجل ذاكرة المنبر الحسيني، نعدو نحو ومضة في سِفر البطولة والفداء والتضحية العظيمة التي سطرها إمامنا الحسين (عليه السلام) وكلما حلقنا في فضاءات يحدها الجلال وعظمة الخالق عز وجل، تربض بنا على الرفعة أسماءٌ خُطت بأحرف النور، لأسباب أرادها سبحانه منارة ومنهجَ هديٍ الى سبيله، فحفروا أسمائهم على حجر التاريخ لتخلد في ذاكرة المنبر الحسيني، والملا التريري بالرغم من صغر عمره المنبري إلا إن بصمته لا زالت مَعينا ينهل منها منشدي هذا الجيل..
ورحم الأيام كان يلد على الدوام خداما حسينيين، والتريري ممن تجترهم ذاكرة التاريخ كلما حل شهر محرم الأحزان وعلا صوت الخَدمة بياحسين من الحرم الحسيني، لينهال غيث الرحمة من عيون المحبين الذين تسوقهم أقدامهم لأرض كربلاء فتُسدِل كربلاء جفنيها وتغرورق عيناها وتحمرُ قبل أن تلملم ما تشظى من شتات صوتها المبحوح، وتجيب بتأوه عن تساؤلاتٍ لماذا لا زال من يخدم الحسين (عليه السلام) مستهدف؟؟ يعاني مضايقات يزيد كل عصر، فتستيقظ على ملامح عاشوراء بعد أن غيبت لأكثر من ثلاثين عاما بسحب البغي، لتعود وتحي ما كان وتعيش مجد الخدمة الحسينية فيقترن أسمها بالحسين (عليه السلام) هويةً ومبدأً في الدنيا والآخرة..
تحقيق: حسين النعمة
أقرأ ايضاً
- تصل الى (29) تخصص في اربع فروع العتبة الحسينية: الاعدادية المهنية للبنات تدرس (5) اقسام الكترونية علمية
- تستقبل طلابها في العام المقبل :العتبة الحسينية تُشـّيد جامعة تقنية تضم معاهد واقسام نادرة في العراق
- شاهد عيان: جيش الكيان الاسرا..ئيلي قصف الانسان والحيوان والشجر والحجر