- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
إطلالة على تاريخ ديون العراق السيادية
بقلم: د. مظهر محمد صالح
يعد تاريخ الديون العراقية عموماً و الخارجية منها خصوصاً من الوقائع المحزنة و الداكنة في تاريخ العراق الاقتصادي الحديث.
فقد ظل الدين الحكومي على مدار العقود الاربعة الماضية بعيداً في توجهاته عن فلسفة الاقتراض من اجل الاستثمار في التنمية وتحقيق الازدهار الاقتصادي بحكم الظروف والعوامل السياسية القاهرة والاستثنائية.
ففي عقد الثمانينيات الماضي وابان الحرب مع ايران كان الاقتراض الخارجي مسخراً لتمويل آلة الحرب المهلكة وهو دين استهلاكي (قاتل وبغيض odious debt) رافقه اقتراض داخلي للغرض الانفاقي الاستهلاكي نفسه.
فقد قدرت سكرتارية نادي باريس في العام٢٠٠٤دين العراق الخارجي لمرحلة ماقبل ١٩٩٠بحوالي ١٢٨مليار دولار والذي تقرر حينها شطب ٨٠٪ منه بموجب اتفاقية نادي باريس.
تلك الاتفاقية التي استندت على قرار مجلس الامن ١٤٨٣ في مايس ٢٠٠٣ بشان تسوية المديونية الخارجية للعراق ازاء دائنيه.
اذ تراكمت ديون قبل العام ١٩٩٠ جراء توقف السداد والعجز عن الدفع وتطبيق شروط اتفاقيات الدين الموقعة رسمياً مع مختلف الدائنين سواء السيادية منها والتي تعود لمجموعة دول نادي باريس ١٩ او للدائنين الرسميين من مجموعة الدول ال ٥٤ دولة الدائنة للعراق من خارج مجموعة نادي باريس، فضلاً عن الاف الدائنين التجاريين.
وان ما اظهرته اتفاقات الدين الثنائية مع الاطراف الدائنةً قد اشرت الى اقرارات بدفع الفوائد المتراكمة سواء على صعيد اصل الدين او قبول الفائدة التاخرية PDI وحسب نصوص التعاقد على الدين والموقع اغلبها رسميا مع الاطراف الدائنة في ثمانينيات القرن الماضي. وفي مرحلة حصار التسعينيات وفرض العقوبات الدولية على العراق والمترتبة جراء حرب الكويت وتبعات غزوها،فقد اتخذ موضوع الديون واعبائها مسارين مختلفين،الاول، اذ ظل الاقتراض الداخلي يسير بكثافة لمصلحة الانفاق العام ضمن الادوات النقودية وممارسة لعبة تمويل عجز الموازنة بالتمويل التضخمي او لعبة تنقيد الدين العام debt monetization game ذلك لتوفير استدامة للواقع الهش في موازنات مرحلة الحصار الاقتصادي والسعي وقتها لتشغيل ماكنة النظام الاقتصادية.
اذ جرى مصادرت الدخل الحقيقي للفرد العراقي عن طريق استخدام مايسمى (مبدأ المصادرة التلقائية لمدخرات الافراد وفوائضهم المحتملة وامتصاصها مقدماً بموجات التضخم والتوقعات التضخمية التي يولدها الانفاق العام الممول بالاصدار النقدي او بالتضخم).
وهي آلية استلاب تلقائية تقوم على ديمومة استبدال ادوات الدين الحكومي (حوالات الخزينة السنوية) الصادرة عن وزارة المالية بالنقد المصدر لتقبل تلقائياً في الميزانية العمومية للبنك المركزي العراقي.
ومن ثم اعتمادها كاصول رديئة غير قابلة للاطفاء وقت ذاك في تكوين القاعدة النقدية.
اما المسار الثاني، ويتمثل بتنفيذ الاتفاق مع الامم المتحدة،بعد ان سخرت المنظمة الدولية ثلث عوائد النفط العراقي المصدر عبر مذكرة التفاهم او برنامج (النفط مقابل الغذاء والدواء)وتم بدء العمل في تلك المذكرة الانقاذية في العام ١٩٩٦، ذلك لدفع (التعويضات الخارجية) الى متضرري حرب الكويت من خلال صندوق الامم المتحدة للتعويضات UNCC وبمختلف مشاربهم ودولهم ومؤسساتهم التي ظلت لاتعد ولا تحصى وبمبلغ تعويضات زاد على ٥٢ مليار دولار.
علماً ان التعويضات هي ليست ديون وانما جزاءات فرضت بقرارات اممية بما فيها تغطية تكاليف فرق التفتيش وتستوفى جمعها من عوائد مذكرةالتفاهم النفطية.
اذ ظلت المنظمة الدولية تحتفظ بعوائد النفط العراقي في حساب باسم الامين العام للامم المتحدة ضمن ترتيبات الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية.
و لم يبق حالياً من مبالغ تلك التعويضات الكويتية سوى مبلغ هو اقل من ٣ مليارات دولار.
حيث بدات المرحلة الجديدة الاخرى في حياة العراق الاقتصادية وتطور مديونيته منذ مطلع الالفية الثالثة وتحديدا مرحلة التحول السياسي الكبير في العام ٢٠٠٣ وحتى الوقت الحاضر.
فلم يلجأ العراق الى اي اقتراضات ذات اهمية تذكر.الا ان تعرض بلادنا فجأةً،بعد انتهاء عقد زمني من التحول السياسي، الى ازمتين خانقتين (امنية ومالية) في العام ٢٠١٤ وامتدت حتى العام ٢٠١٧ قد اطلق عجلة القروض التشغيلية لتأخذ مداياتها مجدداً.
اذ ذهب جل الاقتراضين الداخلي والخارجي هذه المرة الى دعم الموازنة التشغيلية بما يؤمن استدامة مدفوعات الموازنة الجارية ولاسيما من الرواتب والاجور وغيرها من الالتزامات فضلاً عن تطمين جبهة الحرب ضد الارهاب بعد ان تراجعت اسعار النفط الخام من ٨٠ دولار للبرميل الى اقل من ٣٠ دولار للبرميل الواحد، واذا ماأخذنا كلفة انتاج النفط الخام الذي تتولى خدماته شركات النفط العالمية IOCs فان صافي عائد البرميل من النفط الخام المصدر ستكون ٢٠ دولار آنذاك وان الرواتب والاجور والتقاعدات صممت على برميل نفط عائده لايقل عن ٨٠ دولار.
وهكذا جاء الدين الخارجي هذه المرة مرتبطا بشكل اساس بمشتريات السلاح والتجهيز واعادة بناء القوات المسلحة لمواجة الارهاب الداعشي وهو توجه يمتلك في نهاياته طبيعة استهلاكية عالية في تشغيل ماكنة الحرب و ادواتها والتي تطلبتها اولويات تحرير الارض.
ويلحظ ان نصف الديون الخارجية التي ولدتها الازمتين المذكورتين(المالية والامنية) بعد العام ٢٠١٤ انذاك (ولاسيما القروض الخارجية المقدمة من الدول السبعة الكبار التي استندت على التعهدات التي قطعتها تلك الدول في بيان طوكيو في شهر مايس ٢٠١٦ لدعم العراق بحربه ضد الارهاب، فضلاً عن الائتمانات المقدمة من المؤسسات المالية الدولية المتعددة الاطراف كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي) التي بلغ مجموعها الى اليوم بنحو ١٢ مليار دولار ونيف،قد انصرف اكثر من نصفه او ربما غالبيته على دعم الموازنة التشغيلية بين الاعوام٢٠١٥-٢٠١٧.
وتاسيساً على ما تقدم، فان تاريخ المديونية العراقية وعبر عقود متعددة ومختلفة من الزمن قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالانفاق الاستهلاكي الحكومي جراء الحروب والصراعات والحصارات والازمات والفساد بنسبة بلغت ٩٠٪.
وان اعباء الديون الاستهلاكية ربما عادلها في الجانب الاخر من الدين ولو بشكل محدود ارتباط تمويل بعضه بمشاريع التنمية المدرة للدخل.
ولكن ظلت المشاريع المنفذة بالقروض هي الاخرى هامشية الاثر في دفع النمو الاقتصادي للبلاد واحداث تحول اقتصادي يعتد به.
وهكذا وعلى مدى اربعة عقود من عمر العراق الاقتصادي لم تشكل الديون التنموية المرتبطة بمشاريع الدولة الاستثمارية سوى١٠٪ من اجمالي الديون السيادية العراقية.
اذ ظلت موارد النفط العراقي تعمل كرافعة تسديد مالية مستدامة في خدمة الديون الاستهلاكية غير المنتجة، لتسجل البلاد بعدها ايضاً اربعة عقود متتالية من التنمية الضائعة.
فعلى سبيل المثال بلغت نفقات المنح والمساعدات الدولية والقروض الميسرة (او التي يمثل عنصر المنحة فيها grant element نسبة عالية) والتي صرفت على قطاع الاستثمار و البنية التحتية العراقية بين الاعوام ٢٠٠٣-٢٠١٣ بنحو ٩٤ مليار دولار.وشارك العراق من جانبه بصرف ١٢٦ مليار دولار،اي ان اجمالي المصروفات الفعلية على قطاع الاستثمار الحكومي خلال السنوات العشر آنفاً بلغ ٢٢٠ مليار دولار!!
والنتيجة هي ان البلاد ظلت وما زالت بحاجة الى اكثر من ٨٠٠٠ بناية مدرسية وان هناك ٣،٥ مليون انسان يعيش في عشوائيات حول المدن عديمة الخدمات (وتفتقر الى شبكات الصرف الصحي والمياه وخدمات نفاذ القانون)حتى امسى جميعنا يتمتع باشلاء متهالكة من البنية التحتية.
وعلى الرغم مما تقدم، فان حالة الاقتصاد الكلي للعراق، سواء المرئية اوالكامنة،مازالت تظهر استدامة في قوة البلاد المالية والاقتصادية، تؤازرها تدفقات نقدية اجنبية ملائمة للسداد والقدرة على ادامة خدمة الديون وتحملها، ما جعلت اجمالي الديون الحالية للعراق (الداخلية والخارجية) كنسبة الى الناتج المحلي الاجمالي لاتتعدى ٤٩،٧٪ وبواقع ١١٥ مليار دولار وعلى وفق ماهو مؤشر في جداول المديونية في العام ٢٠١٩ وستنخفض تلك النسبة الى ٤٨،٦٪ في العام ٢٠٢٠ على الرغم من ارتفاع تلك الديون قليلاً (بالقيمة المطلقة)وحسب التوقعات بسبب ظروف تمويل الموازنة العامة الاتحادية ٢٠٢٠ والعجز المتوقع فيها.
اذا سيساعد ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي (من ٢٣٥ مليار دولار في عام ٢٠١٩ الى ٢٥٤ مليار دولار في عام ٢٠٢٠)في توفير وزن مؤثر سيقف وراء انخفاض النسبة المعيارية للديون العراقية في العام ٢٠٢٠.
وعليه ستُسير معدلات المديونية نحو الانخفاض باتجاه او صوب الحدود الامنة لطاقة تحمل الدين اوالاقل خطراً debt sustainability.
فالمديونية العراقية مازالت آمنة وبعيدة حتى عن الدائرة القصوى للمعيار الدولي في تحديد نهايات مقبولة للدين كنسبة الى الناتج المحلي وبنحوٍ لايزيد على ٦٠٪.
ختاماً، سيتوافر للعراق ومنذ اليوم حيزاً مالياً fiscal space مناسباً يلامس باشارته توقعات الدائنين الدوليين واسواق راس المال بشكل ايجابي ليتاح ادارة الدين العام والايفاء بالتزامات خدماته بمستوى اكثر اطمئناناً.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري