عباس الصباغ
عانى العراق ومنذ تأسيس دولته الحديثة من عدة مظاهر اجتماعية سلبية اضرّت كثيرا بالواقع المديني العراقي وساهمت في تعثّر نشوء دولة عصرية ومدنية عراقية، كان اولها ترييف المدن من خلال النزوح الجماعي لأبناء الارياف والبوادي الى مراكز المدن بحثا عن السكن المريح ولقمة العيش، وهو ما ادى الى ترييف الحياة في المدينة بشكل عام وتقولبها بثقافة الريف والى سيادة النزعة الريفية كنسق حياة غلب على نسق حياة المدن اذ زحفت القيم الريفية (ومعها البدوية) الى قلب المدن واستبدال القيم المدينية بقيم أخرى، وهذا التداخل غالبا ما يشكّل عقدة اجتماعية تتفاقم يوما بعد يوم تفضي الى نشوء شيزوفرينيا اجتماعية بسبب اشتباك منظومتين من القيم والعادات والتقاليد والأخلاق والسلوكيات، وبعد ان زحفت اليها العشائرية السلبية بكل ثقلها من قيم وممارسات تغوّلت نتيجة للتحولات غير المدروسة والمنعطفات التاريخية الحادة والأزمات والحروب والممارسات الاستبدادية والأخطاء السياسية الفادحة التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي وهشاشة الاستقرار المجتمعي والإهمال السياسي المتعمد للريف وعدم شموله ببرامج التحديث والتنمية المستدامة وعدم مساواته بالمدن وهو مانراه حاليا في تفشي ممارسات مرفوضة مثل مايسمى بـ (الدكَة العشائرية) وبعض التصرفات التي لاتتواءم مع حقوق الانسان كالنهوة والفصلية والديات الباهظة المبالغ فيها ولأسباب قد تكون تافهة جدا والاخذ بالثأر وغيرها ، ويجري كل ذلك في قلب المدن والاحياء السكنية كما تجري في قلب الارياف ومتون الصحارى .
واستفحلت ظاهرة التريّف في المدن بعد التغيير النيساني المزلزل ما ادى الى انتشار ظاهرة العشوائيات في اغلب مراكز المدن بسبب النزوح العشوائي وخاصة في العاصمة بغداد ومراكز المدن ذات الطابع السياحي والتجاري ككربلاء والنجف الاشرف وبابل، ناهيك عن مسالة التصحر الذي تتأتى بتجريف الاراضي الخضر والبساتين التي تحوّلت الى وحدات سكنية عشوائية تفتقر الى ابسط الخدمات، يضاف اليها اهمال القطاع الزراعي من قبل اهله النازحين نحو المدن ، فهي ظاهرة سلبية مركّبة ومعقّدة ايضا ولها عدة ابعاد اجتماعية واقتصادية وديموغرافية خطيرة حاولت الحكومة ان تحدّ منها عن طريق توزيع الاراضي ولكن!!!.
رافقت كل ذلك النزعة العشائرية التي اصبحت احدى الهويات الفرعية وهي في اوضح تجلياتها السلبية تغدو صفة مناقضة للطبيعة المدينية وللمستوى الحضاري للمدينة اذا خرجت عن نطاقها وتغلغلت في غير مجالها الحيوي من خلال الزحف الريفي المستمر نحو المدن فأصبحت العشائرية بعد التغيير النيساني هوية فرعية اخرى التجأ اليها البعض للتمترس خلفها عوضا عن الهوية الوطنية الجامعة.
والظاهرة الاخطر هي ظاهرة التحزّب والتعكز على مكاتب الاحزاب واذرعها العسكرية والاستقواء بها إمّا لأجل "تمشية" الامور اليومية او للاستقواء بها على الاخرين ولتنفيذ اجندات شخصية تكون اغلبها كيدية وهو مايسمى بعسكرة وتحزّب المجتمع ، فصارت الحزبوية هي الاخرى احدى الهويات الفرعية تضاف الى الهويات الفرعية الاخرى كالطائفية والمذهبية والمناطقية والاثنية والقومانية وهي كلها هويات فرعية مرفوضة ان تسيّدت وهي لاتغني عن الهوية الوطنية الجامعة لان الهوية الوطنية لأي امة من الأمم هي مجموع الخصائص والسمات التي تتميز بها وتعكس روح الانتماء لدى أبنائها وعن عاطفة المواطنة الصادقة تجاه الوطن. ولأجل العيش المشترك في العراق يجب تفعيل الهوية الوطنية العراقية بوصفها مرجعية العيش المشترك فيه، ونبذ الهويات الجزئية لان بناء دولة عصرية يتطلّب كخطوة أولى تجاوز أطر الهويات الاثنية والانتماءات القبلية والحزبوية لصالح بناء دولة المؤسسات المدنية والعصرية.... العراقية .
أقرأ ايضاً
- مقابلات المرجعية الدينية الشريفة...رسائل اجتماعية بالغة الحكمة
- اللغة العربية.. ومظاهر الاعتداء عليها
- نحن لسنا أنواع اجتماعية نحن ذكر وانثى