بقلم: ياسر الشمري
شباب على اختلاف أعمارهم الفتية، يعملون كخلايا النحل على احد أرصفة مدينة كربلاء المقدسة، لبناء موكباً صغيراً استعداداً لمحرم الحرام... المنظر أدهشني وأثار فضولي الصحفي أن أعرف ما يدور في نفوس هذه الأرواح الفتية من إصرار لتقديم خدمة عظيمة وما هي إمكاناتهم المادية وكيف الحصول عليها...؟
كان الوقت منتصف الليل، وأصوات مطارقهم كانت كإيذان لدخول سورة الحزن الحسيني... توقفت سيارتي بلا شعور أمام هيكل الموكب، وترجلت مسحوراً بما تشاهده عيناي من منظر مندهشاً لأصواتهم الناعية بالقصائد الحسينية القديمة رغم أعمارهم الفتية... في لحظة اندهاشي صحوت على لسان فصيح كعمر الورود بوجه جميل وطلته البهية، لا فرق بينه وبين قمر السماء الصافي في ليالي الأخيرة من ذي الحجة ليقول:
- أستاذ نحن فتية أمنوا بأنهم خدام الحسين في الحاضر والمستقبل... إذا كنت من أصحاب النفوذ السلطوي فلا قرار ولا حكم لك علينا هذا موكبنا الحسيني من ثلاث سنوات... وإذا كنت من أبناء كربلاء الميسورين عليك أن تتبرع لنا بما تجود به نفسك وقدر حبك للإمام الحسين عليه السلام...
اللحظة التي ربط فيها قيمة مادية لا معنى لها عندي بمقدار حبي للإمام الحسين (عليه السلام) نزلت على راسي كضربة الجزع التي اضربها بسيفي صباح العاشر من محرم، إما قلبي لا أحدثكم ماذا صنعت به الدقات حتى فار دمي بكل جسدي وارتعشت أمام هذا الصغير الذي تحدى حبي العظيم لسيدي العظيم، بدون وعي أخرجت كل ما في جيبي من مال ووضعتها في كفه الصغير، فلم يكتفي بل مسك بيدي وأدخلني وسط الموكب الصغير كأنني دخلت روضة من الجنة، فوضع المال في صندوق (يا حسين نحن خدامك)... وقتها ارتاحت روحي وفرحت مع فرحة روحهم الطيبة وهم يعملون بنشاط وضحكاتهم البريئة ترسم على وجوههم التي بان عليها التعب من الأجواء الحارة لنهار الصيف الحارق بارتفاع درجات الحرارة ما فوق الأربعين، وقد أتى الليل مكانه لتخرج هذه الفتية لبناء موكبهم المتواضع... رأيت احدهم قد تسلق السلم ليثبت أطراف اللوحات الخشبية وآخر يمسك بطرف السلم خوفاً على صديقه من أن يسقط ومنهم من قام بإصلاح اعوجاج المسامير ومنهم من تطوع لتنظيف المكان وآخر قد بادر بجلب الماء ليسقي العطاشى، إنها روضة مقدسة على رصيف مدينة الانقياء.
زاد فضولي بالمعرفة وعرفت إن لهؤلاء القادة قائد أسمه (مقتدى باسم ميري) طالب في المرحلة الأولى للمتوسطة لا يتجاوز عمره ربيع الرابعة عشر، توجهت إليه بخطى تحمل الإعجاب والحب، فقلت له هل حدثتني عن موكبكم وماذا تقدمون... بعد إن عرف إنني صحفي وحسيني وكربلائي، أجاب بفرح والابتسامة تملأ عينه:
- حين أوقفت سيارتك تسرب الخوف إلينا، فنحن خدم الحسين عليه السلام لا اسم لنا بين المواكب الكبيرة، ولا دعم لدينا من مؤسسات بكل أنواعها نحن أحباب الله والحسين تجمعنا على هذا الحب منذ ثلاث سنوات فأسسنا هذا الموكب البسيط وأسميناه (خدام الحسين) لخدمة زائري أبا عبد الله الحسين (عليه السلام) , ونحن ستة أصدقاء وينظم لنا آخرون للخدمة ونعتمد بتمويل الموكب على التبرعات وأموالنا الخاصة , ونقوم بتوزيع الوجبات البسيطة منها (الشاي والعصير والماء... الخ) ونستمر بالخدمة حتى نهاية شهر محرم الحرام.
بدأت عواطفي تعلن ثورة حزنها لم اعرف ماذا أقول أمام هذه الشلة الحسينية الفتية غير أن امتص بعض شجوني حتى لا ابكي بصوت عال، استدرت دورة كاملة حول الموكب ومن ثم طلبت منهم أن يسمعونني ما يحفظون من قصائد حسينية فسمعت ما تخزن خلجاتهم حيث بادر احدهم وهو (أكرم جاسم حميد) بقصيدة أحسست فيها إن لقارئها روح قد عشقت أهل بيت النبوة (عليهم السلام) حينما ردد أبياتها دون تلكؤ أو تردد ليصطفوا حوله مرددين ما يقول وكأنه اخذ بمخيلتنا لموكب عزاء يسير بين الحرمين وبهذا ودعوني على أمل اللقاء بهم مرة أخرى لأنشر ما يصنعون على وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة وأزودهم بنسخة منه ليحتفظوا بها وهم يرفعوا اكفهم بالدعاء لي لتوثيق عملهم.
أقرأ ايضاً
- المسؤولية المدنية المترتبة عن استخدام الذكاء الاصطناعي
- البكاء على الحسين / الجزء الأخير
- البكاء على الحسين / 4