- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
طالَباني..حكيمُ المُعارضةِ والسُّلطةِ
نـــــــــــــــــزار حيدر
تَوطِئَةٌ؛
*نشرت صحيفة [كُوردستاني نَوي] التي تصدر في مُحافظة السليمانيَّة عن الإِتِّحاد الوطني الكُردستاني، مُلحقاً خاصّاً في ذكرى وفاةِ رئيس جمهوريَّة العراق المرحُوم جلال طالباني شاركت فيه أَكثر من [٥٠] شخصيَّة سياسيَّة وفكريَّة وثقافيَّة من مُختلفِ التوجُّهاتِ والخلفيَّاتِ.
أَدناه؛ مُشاركتي في الملفِّ الذي تشكَّلَ من [٨٤] صفحة، باللُّغةِ الكُرديَّة [وهوَ عددُ سنِيِّ عُمْرِ المرحُوم (١٩٣٣–٢٠١٧)].
١/ لقد تعرَّفتُ بالمرحومِ مام جلال في مُنتصف الثمانينيَّات عندما جمعتنا قِمم جبال كُردستان وهِضابها ووِديانها وتِلالها للنِّضال المُشترك ضدَّ الإِستبداد والديكتاتوريَّة.
واستمرَّت وترسَّخت العِلاقة في العاصِمَتَين الجارتَين، طهران ودمشق، واللَّتان كانتا تحتضِنان حركة المُعارضة العراقيَّة بكافَّة فصائلِها السياسيَّة الأَربعة [الإِسلاميَّة والقوميَّة والكرديَّة والديمقراطيَّة] حسب التَّسميات والتَّصنيفات المُتَّفق عليها آنئذ! عندما كانت بقيَّة عواصِم البِلاد العربيَّة والإِسلاميَّة تُسلِّم المُعارضين إِلى مُخابرات نظام الطَّاغية ليعدِمهُم أَو تعدُّ عليهِم أَنفاسهُم!.
واتَّسعت هَذِهِ العلاقة إِثر إِنتقاضة الشَّعب العراقي ضدَّ نِظام الطَّاغية الذَّليل صدَّام حسين في شعبان (آذار) عام ١٩٩١ وتحديداً في كُردستان التي تحوَّلت إِلى منطقةٍ آمنةٍ وملاذٍ حصينٍ يحتضنُ حركة المُعارضة، والتي شهدَت في نهاية العام ١٩٩٢ عقد مُؤتَمرها الموسَّع الذي انبثقَ عَنْهُ [المُؤتمر الوطني العراقي الموحَّد] في مُنتجع شقلاوة الذي اختارَ هيئةً رئاسيَّةً ثُلاثيَّةً تشكَّلت من المرحومَين العلَّامة الدُّكتور السيِّد بحر العُلوم والسيِّد حسن النَّقيب بالإِضافة الى كاك مسعود بارزاني ومجلِساً تنفيذيّاً من [٢٥] عُضواً يُمثِّل كلَّ الفصائِل المُعارِضة بكلِّ خلفيَّاتها السياسيَّة والأَيديولُوجيَّة كُنتُ أَنا واحداً منهُم.
واستمرَّت العلاقة القريبة بينَنا وزادَ التَّعاون والتَّنسيق بشَكلٍ كبيرٍ وواسعٍ استمرَّ إِلى إِنعقاد مُؤتمر دمشق لزُعماء المُعارضة عام ١٩٩٦ ومن ثمَّ مُؤتمر نيويورك عام ١٩٩٩ الذي اشتركتُ فِيهِ وحضرهُ المرحوم مام جلال فكان لَهُ، وكالعادةِ، الدَّور المِحوري الواضح في بلوَرة الرُّؤية وتقريب وُجهات النَّظر بينَ الجميع!.
وبعدَ سقوط الصَّنم في بغداد في ٩ نيسان ٢٠٠٣ والتَّغيير الذي شهدتهُ البِلاد كنتُ من أَوائِل الدَّاعين إِلى أَن يكونَ رئيس الجمهوريَّة كُرديّاً لنتأَكَّد بأَنَّ تغييراً جذريّاً وحقيقيّاً قَيد الإِنجاز يحطِّم المُعادلة الطائفيَّة والعُنصريَّة التي تأَسَّست عليها الدَّولة العراقيَّة عام ١٩٢١ والتي أَرست دعائِمها قاعدة [كُوكس - النَّقيب]! فنشرتُ مقالاً بعِنوان [كُردي رئيساً للعِراق..لِمَ لا؟!] لاقى وقتها ردودَ فعلٍ مُتبايِنة فقد أَيَّدهُ وأَثنى عليهِ وتبنَّى رُؤيتهُ ضحايا النِّظام الشُّمولي البائِد، أَمَّا أَيتامهُ من العُنصريِّين والطائفيِّين فقد شنَّوا عليهِ وعلى رؤيتهِ وصاحبِها حملةً إِعلاميَّةً شَعواء.
طبعاً، فلقد إِنتصرت في نهايةِ المطاف رُؤية المقال ليصبحَ المرحوم جلال طالباني أَوَّلَ رئيسٍ كُرديِّ للعراقِ الحديث، بعد إِقرارِ الدُّستور!.
ثمَّ كتبتُ مقالاً يحملُ رُؤيةً إِستراتيجيَّةً لو أَنَّ العراقيِّين أخذُوا بها لكانَ العراقُ الْيَوْم مختلفاً تماماً عمَّا هُوَ عليهِ الآن.
عُنوان المقال كانَ [أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...الطالباني نُموذجاً] فِكرتهُ هيَ أَن ننظُرَ من الآن فصاعداً إِلى الإِنجاز في التَّقييم بغضِّ النَّظر عن الخلفيَّة! فالإِنجازاتُ والنَّجاحاتُ هِيَ المعيار الوحيد لتقييم المسؤُول مهما كانَ موقعهُ في الدَّولة! وهي الرُّؤية التي تجنِّبنا التَّقسيمات والتقييمات الطائفيَّة والعُنصريَّة والمناطقيَّة بكلِّ أَشكالِها.
٢/ لا يختلف إِثنان على أَنَّ المرحوم مام جلال كان وسيظلُّ رمزاً من رموزِ النِّضال العنيد ضدَّ الإِستبداد والديكتاتوريَّة والنِّظام الشُّمولي.
تشهد لَهُ بذلكَ عقود النِّضال الطويلة ورفاق دربهِ من قادةِ وكوادر وعناصر مُختلف التَّنظيمات السياسيَّة وبمختلف التوجُّهات والخلفيَّات.
٣/ أَكيد؛ فالمرحوم كان يقودُ نضالاً وطنيّاً عامّاً وشاملاً فلم يكن قائداً قوميّاً للكُرد فحسب وإِنَّما كانَ مُلهِماً لكلِّ المناضلين في فترة النِّضال السَّلبي ضدَّ نظام الطَّاغية الذَّليل صدَّام حسين، والذين رأَوا فيه القائد الشُّجاع الذي لا يلين ولا يستكين، ولذلك حاول الطَّاغية تصفيتهُ وتغييبهُ عن السَّاحةِ بكلِّ الطُّرق والوسائل الدَّنيئة منها الإِغتيال والغدر.
٤/ نعم؛ فلقد كانَ المرحوم مام جلال بَيضة القُبَّان كما يقولون في كلِّ المشاريع السياسيَّة سواء في فترة النِّضال ضدَّ الإِستبداد والديكتاتوريَّة أَو فترة ما بعد التَّغيير عام ٢٠٠٣.
إِنَّهُ حكيم المُعارضةِ والسُّلطةِ بجدارةٍ.
كان يمتلكُ قُدرةً نادرةً على تقريب وُجهات النَّظر بين مُختلف السياسيِّين وكذلك في فضِّ النِّزاعات و [الإِشتباكات] بمُختلفِ أَشكالِها السياسيَّة والإِعلاميَّة والفكريَّة بين مُختلف فصائل حركة المُعارضة العراقيَّة.
وأَنا شخصيّاً تعاملتُ وتعاونتُ معهُ في فَتراتٍ مُختلفةٍ فلمستُ عندهُ التميُّز في الحوار والإِصغاء وتبادُل وُجهات النَّظر ممزوجاً بروحِ الدَّعابة والفُكاهة، ما حبَّبهُ لكلِّ مَن تعاملَ معهُ أَو حتَّى التقاهُ لِقاءاً عابِراً.
ولا أَعتقدُ أَنَّ مُنصِفاً يتنكَّر لدورهِ الوطني البارز في كلِّ المراحِل التي مرَّت بها العمليَّة السياسيَّة بعد التَّغيير الذي شهدهُ العراق عام ٢٠٠٣ خاصَّةً مرحلة كتابة والمُصادقة على الدُّستور من قِبل الشَّعب العراقي، وهي كما نعرف كانت مرحلةً حسَّاسةً جدّاً ومِفصليَّة وخطيرةً في نفسِ الوقت.
٥/ لقد كانت أُمنية المرحوم مام جلال هو أَن يرى العالَم ومنطقتنا والعراق على وجهِ التَّحديد وقد حلَّ به السَّلام والأَمن، وخيَّم عليهِ الإِستقرار، ولقد بذلَ كلَّ ما في وُسعهِ من أَجلِ تحقيقِ ذلك، فكان يوظِّف كلَّ علاقاتهِ السياسيَّة الدوليَّة منها والإِقليميَّة والوطنيَّة من أَجلِ تحقيق هذا الهدف، ولكن، وللأَسف الشَّديد، فلقد رحلَ الفقيدُ قبل أَن يُكحِّل عيونهُ بذلك الْيَوْم، وذلك بسببِ السِّياسات العُدوانيَّة الظَّالمة والعُنصريَّة والطائفيَّة التي تنتهجها الكثير من النُّظم السياسيَّة في هذا العالَم.
٦/ قد يَكُونُ المرحوم مُحِقّاً في رأيهِ عندما امتنعَ عن التَّوقيع على قرار المحكمةِ الخاصَّة القاضي بإِعدام الطَّاغية الذَّليل صدَّام حسين على اعتبار أَنَّهُ صاحب رأي وعهد قطعهُ على نفسهِ وأَمام الكثير من المنظَّمات الدوليَّة، ولكن في نفسِ الوقت فإِنَّ قرار المحكمة الخاصَّة بحقِّ الطَّاغية الذَّليل كان يجب أَن يُنفَّذ لأَنَّهُ يستحقَّهُ وبجدارةٍ.
والحمد لله فلقد انتقمَ الله تعالى في نهايةِ المطاف للشُّهداء ولأُسر ضحايا الإِستبداد والديكتاتوريَّة والنِّظام الشُّمولي البوليسي.
٧/ إِنَّ قُدرة المرحوم مام جلال على التكيُّف مع الظُّروف السياسيَّة القاسية التي مرَّت بالعراق سواء في فترة النِّضال السَّلبي أَو مرحلة ما بعد التَّغيير، من أَجلِ تحقيقِ الصَّالحِ العام، أَكسبتهُ المكانةَ المرمُوقة واللَّائقة بهِ في عالَم مُتناقض بكلِّ معنى الكلمة.
ولا أَشكُّ في أَنَّ غيابهُ عن السَّاحة تركَ فراغاً كبيراً ظهر أَثرهُ خلال الأَعوام الأَربعة أَو الخمسة الماضية.
إِنَّ القادة الإِستثنائيِّين في الزَّمن الإِستثنائي لا يمكنُ تعويضهُم بسهولةٍ عندما يغيبونَ عن السَّاحة! فليسَ من السُّهولة بمكانٍ صناعة القادة، خاصَّةً بوزنِ مام جلال الذي عركتهُ عقودٌ طويلةٌ من الزَّمن فصلُبَ عودَهُ وتجذَّرت خِبرتهُ وتوسَّعت آفاقهُ وتشعَّبت علاقاتهُ بشَكلٍ لا يمكنُ وصفهُ بعُجالةٍ.
أَتمنَّى من الأَجيال الجديدة أَن تقرأ سيرتهُ وسيرة بقيَّة الزُّعماء الإِستثنائيِّين الَّذين مرُّوا في تاريخ العِراق الحديث ليتعلَّموا فيختزِلوا الزَّمن ويكسِبوا الخِبرة والتَّجربة بأَقلِّ التَّضحيات، فـ {في التَّجاربِ عِلمٌ مُستحدث} كما يَقُولُ الإِمامُ عليِّ بن أَبي طالبٍ عليهِ السَّلام الذي كان المرحوم مُغرَمٌ بهِ ويحفظ الكثير من حِكَمهِ وأَقوالهِ ويستشهدُ بها في الوقتِ والمكانِ المُناسب.
٨/ لقد كانَ المرحوم مام جلال قوميّاً ولكنَّهُ لم يكُن عُنصريّاً لأَنَّهُ كان يُؤمنُ بالتَّنوُّع والتعدُّد والتَّعايُش ولذلك كانَ ذا علاقاتٍ واسعةٍ جدّاً مع مُختلف التيَّارات والتوجُّهات والقيادات، فلم يشأ مام جلال أَن يُشرنِقَ نفسهُ وشخصيَّتهُ العِملاقة بتوجُّهات ورُؤى ضيِّقة أَبداً.
واليوم إِذا أَردنا أَن نبني عراقَنا الجديد فيلزمَنا أَن نُؤمن بالشَّراكة الحقيقيَّة بين مُختلفِ شرائح ومكوِّنات المُجتمع العراقي، فلا يسعى أَحدٌ لتغييب أَحدٍ أَو إِلغائهِ، فلقد جرَّبنا هَذِهِ السِّياسة التي لم تُنتج لنا إِلَّا الهلاك والدَّمار.
ينبغي على الجميع التمسُّك بالمنهج الوطني بعيداً عن التوجُّهات العنصريَّة والطائفيَّة الشوفينيَّة، وليكن الإِنتماء الوطني هو الأَصل في العلاقةِ بينَ الجميع.
وليكن همُّنا بناء دولة المُواطنة بعيداً عن مشاريعِ التَّقسيم والتَّجزئة والتَّمييز التي تقوم على أَساس النَّظَرات الضيِّقة.
٩/ الزَّعيم النَّاجح هو الزَّعيم المُحاور ولا يمكنُ أَن يكونَ كذلكَ إِذا لم يقبل النَّقد مهما كان لاذعاً شريطةَ أَن يكونَ حقيقيّاً وبنَّاءاً بعيداً عن لُغة التَّخوين والتَّسقيط والتَّشهير.
والمرحوم مام جلال هُوَ من الزُّعماء القلَّة الذين عُرِفَ عنهُم قَبولهم بالحوار بشَكلٍ واسعٍ.
نتمنَّى أَن تتَّسع صدُور الزُّعماء والقادة للرَّأي الآخر لنُقلِّلَ من الخسائر والتَّضحيات ونُزيدُ من الإِنجازات الوطنيَّة والنَّجاحات الوطنيَّة.
٢٩ كانُون الأَوَّل ٢٠١٨
لِلتَّواصُل؛
E-mail: nazarhaidar1@hotmail. com