بقلم | مازن الزيدي
في شباط قبل الماضي كان العراقيون على موعد مع مفاجأة من العيار الثقيل تمثلت بهبوط طائرة وزير الخارجية السعودية عادل الجبير في مطار بغداد، ودخوله الخضراء دخول الفاتحين مبشّرا بحقبة جديدة من العلاقات العراقية السعودية، بعد قطيعة دامت اكثر من ربع قرن.
جاءت الزيارة في توقيت حسّاس، فقد كان العراق قد نجح للتوّ بصدّ المدّ الداعشي واستعاد زمام المبادرة بتحرير اجزاء من محافظات ديالى وصلاح الدين والانبار، وباتت قواته على مشارف الموصل.
وصل الجبير الى قلب الخضراء واحتضن القائد العام للقوات المسلحة، فيما واصلت قنوات العربية والحدث استهدافهما للحشد الشعبي وتشويه انتصارات على داعش. قيل وقتها ان الجبير يرمي من خلال زيارته جبران ما خرّبه السفير السعودي المزعج ثامر السبهان، لكنّ الاخير ما لبث ان تمت ترقيته بعد طرده من بغداد الى منصب وزير دولة لشؤون الخليج والشرق الاوسط.
ولم تمرّ ايام على المفاجأة السعودية حتى تكشّفت كواليسها؛ اذ تبيّن أن زيارة الجبير جاءت بدفع من واشنطن لدعم العبادي، ولكن مقابل صفقة متعددة الجوانب، تتضمن مغريات اقتصادية وسياسية مقابل انضمام بغداد الى الناتو الاسلامي الذي كان محمد بن سلمان يسعى لتأسيسه في المنطقة.
كان واضحا ان الانفتاح السعودي المفاجئ لم يكن بلا ثمناً او نتيجة لاعادة حسابات خاطئة اقترفتها الرياض بحق النظام العراقي الجديد، بل كان خطة مفصّلة لمواجهة ما يسمى بالنفوذ الايراني في العراق، وتحريض بعض المكونات ضد بعضها الاخر.
وبالفعل فقد بدأ السبهان اول فصول هذه الخطة عبر لقاءاته في بغداد واربيل، وكانت تغريداته على تويتر بمثابة ساعة صفر لاثارة جدل مغرض يسعى لشقّ الصفّ العراقي حول الحشد او عمليات التحرير في ذروة حربنا ضد داعش.
لم يتوقف المخطط السعودي لزرع الانقسام في العراق بل استمر حتى بعد طرد السفير المزعج وان بوتيرة اقل. كان واضحاً حجم التحشيد الاعلامي المخطط له لاي موقف او خطوة سعودية، كما حدث في زيارات وزير الطاقة السعودية الى بغداد وقبلها زيارة وفد الصحافة السعودية، وبعد ذلك مشاركة شركات سعودية في معرض بغداد الدولي.
كانت الخطوات السعودية مكرّسة بشكل واضح، وبدفع ادارة ترامب تحديدا، لدعم العبادي بوصفه السياسي القادر على تحجيم الدور الايراني في العراق، وبالضرورة مواجهة حلفائها وأبرزهم فصائل الحشد الشعبي. على المقلب الاخر، كانت الخطة السعودية تتضمن دعم اي جهد يضعف العراق ويساعد على تقسيمه، ومن هنا جاء الاحتفاء برئيس اقليم كردستان في الرياض، ودعم مشروعه للاستفتاء على الانفصال.
وبعد ان نجح الاختراق السعودي للطبقة السياسية، انتقلت الخطة الى اختراق المحافظات الجنوبية عبر ابداء الرغبة بافتتاح قنصليتين في النجف والبصرة. وفيما واجه اختراق مدينة النجف وعاصمة المرجعية صعوبة واضحة، كانت البصرة بتنوعها الاجتماعي والثقافي بوابة مناسبة لهذا النفوذ.
وابتدأ اختراق البصرة بنشر لافتات تعلن التأييد لولي العهد السعودي وسياساته، والترحيب بافتتاح القنصلية. ووصلت ذروة الاختراق السعودي الناعم عبر المبادرات الودية بين المنتخبين العراقي والسعودي على ارض البصرة. وكلنا يتذكر التحضيرات التي سبقت موعد المباراة والوسم #دارك_يالاخضر الذي تصدر تويتر لعدة اسابيع. كما تضمنت الحملة انتاج اغاني سعودية وعراقية وتمويل صفحات وحسابات على السوشيال ميديا لإظهار الترحيب البصري بالانفتاح السعودي.
وفيما كان اهل البصرة يرحبون بأي فريق عربي او جهد يكسر الحصار على ملاعب العراق، كما حصل مع المنتخب القطري لاحقا، كانت ماكنات الاعلام السعودي تصوّر الحدث على انه هدف في المرمى الايراني على ارض البصرة التي صورها الاعلام السعودي والخليجي كمستوطنة ايرانية تتعامل بالتومان وتتكلم الفارسية.
الاختراق السعودي الناعم تكرّر في احتجاجات البصرة؛ ففيما كان الشباب يطالب بالخدمات ويحتجّ ضد الفساد، كان الاعلام السعودي يصوّر الامر على انه ثورة ضد ايران وحلفائها. فيما قامت مئات الحسابات السعودية باطلاق هاشتاكات تروّج لما اسمتها بـ"ثورة البصرة"، واعادة انتاج خطاب البعثو طائفي، ووصل الامر لاعتبار حرق القنصلية الايرانية بمثابة ثأر لإحراق القنصلية السعودية في مدينة مشهد مطلع عام 2016.
للأسف، فإن احداث البصرة تكشف تواطؤ جهات سياسية وامنية واستخباراتية حتى مع الاختراق المخابراتي الذي تتعرض له محافظات الجنوب، وغضّ الطرف عن ذلك لاهداف حزبية ضيقة حتى ولو كان على حساب استقرار العراق وامنه.