عباس الصباغ
من جملة الاخطاء التربوية الفادحة في مجتمعنا العراقي والتي لها ضرر بليغ على فترة نشوء الطفل الاولى وقبل ولوجه مرحلة المراهقة، هو تعامل الابوين مع الاطفال بحسب عقول الكبار وليس حسب عقول الصغار وبمنطق العيب العرفي والحرام الشرعي وفي مرحة مبكرة جدا من اعمارهم الغضّة وخصوصا في الذروة القصوى لاكتمال نموهم الجنسي والعقلي واللغوي ومن الطبيعي ان لايدرك الطفل وهو في هذا العمر المبكّر المعنى الحرفي لهذين المطلبين (العيب والحرام) ولا يتأتى له ذلك، إلا بعد ان يعبر مرحلة الفطام بسنة او سنتين على الاقل ليكون مستعدا لتقبّل فكرتي العيب والحرام (حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا {الأحقاف/15}) وهي المرحلة الاولى في النمو والتي يبدأ الطفل فيها الاستيعاب المقصود منها.
ومن الطبيعي ان لايهتم الطفل بأمور هذا العالم وقضاياه ـ التي يفهمها الكبار الذين يريدون نمذجة اطفالهم وفق عقولهم وادراكاتهم هم وعلى هواهم ومزاجهم ـ سوى بأمور اللعب واللهو ولاسيما مع الاطفال المقاربين لأعمارهم وطبيعتهم ومستوى ادراكهم ونضوجهم وان كانت التربية (سواء أ كانت صالحة ام فاسدة) هي السبب في تحديد مقاربات شخصياتهم وسلوكهم واندماجهم مع المجتمع بشكل مرضٍ او غير ذلك فالطفل له عالمه وواقعه الخاصان به وبما يتناسب مع مدركاته العقلية التي لاتستوعب الضوابط العرفية او المجتمعية وحتى الشرعية إلا بشكل محدود وبسيط جدا لأنه لايدركها جيدا مثل الكبار، فمن الخطأ ان يطلب الوالدان او احدهما من اطفالهم الكفّ عن اللعب بلعبة ما لأسباب شتى منها ان الوقت او المكان غير مناسبين او انهم يُحدثون ضجيجا امام الاخرين، فيكون ذلك "عيبا" والطفل اللاهي والمندمج باللهو لايفهم ذلك "العيب " الا انه حرمان لحقه في اللهو المناسب لعمره ومن الخطأ ايضا توجيه العقوبة له ويكون الخطأ فادحا جدا حين يتم ذلك امام مرأى الجميع لما له من اثار سلبية على نفسية وشخصية الطفل ستظهر على سلوكه جلية مستقبلا.
الطفل وبعد تجاوزه مرحلة بلوغ فترة أشده وتركه للفطام تبدأ مداركه واحاسيسه بالتفتح واستقبال جميع الاشارات من البيئة المحيطة به ويتفاعل معها تفاعلا يتناسب مع مدركاته فهو يعّبر عمّا موجود في روعه وان كان التعبير على شكل كلمات غير مفهومة للكبار كأن تكون عبارة عن كلمات يرددها سبق وان سمعها من اقرب الناس اليه وقد تكون مضحكة (تمتمات غير مفهومة)، والصحيح هي ليست مضحكة او تحض على الاستهزاء والسخرية، وهي اولى مرحلة النطق او "تدشين" جهازه الصوتي وشفرته اللغوية وجيناته الابجدية وفي بعض الاحيان يكون ذلك عبارة عن مقاطع غير مفهومة "لغو" غير محبب للكبار بل ومزعج لهم فيطلبون منهم السكوت وانهاء تلك الضوضاء والضجيج ولايدرون انها المحاولات الاولى للتكلم والحركة لدى الطفل وقد تبرز لديه مواهب صوتية مدفونة كأن يكون مشروعا لخطيب او شاعر...الخ، وهذا "الضجيج" او "دوخة الرأس" لدى الكبار قد يكون طريقا للنمو اللغوي الذي يتزامن من النمو الجسدي في هذا العمر الغضّ.
والامر ذاته ينطبق ايضا على الحركات التي يؤديها الاطفال والتي تكون اغلبها تكرارا للآخرين او ابتكارا من عقولهم البريئة وهذه الحركات تسبب بعض " الازعاج" للكبار او تعكّر لهم اجواءهم او تصيبهم بالحرج امام الاخرين فيطلبون من الاطفال بالكفّ عن الحركة او الانتهاء منها فورا وإلا يتعرضون الى عقاب شديد نتيجة "وقاحتهم" ولايدري الكبار او الابوان ان تلكم الحركات الفوضوية والمزعجة في نظرهم هي بداية مشوارهم في هذه الحياة فيعبرون عنها بهذه الطريقة التي تتناسب مع بداية نموهم الجسدي وبداية تطور فعالياتهم ووظائفهم وخاصة في مجال التكلم المجال الذي يصفه الكبار بالببغائية وان الطفل يردد كالببغاء وفي مجال اللعب يصفونه بانه كالقرد او (الجني) وهذه مفاهيم خاطئة فالطفل ليس ببغاء او قردا والعملية ليست بهذه الصورة بل هي الملامح الاولى لنمو الطفل وارتقائه اول درجات سلم النضوج وهنا يأتي دور الابوين في تلقين الاسس والمبادئ الاجتماعية والعرفية والشرعية والاخلاقية للطفل وتوضيح ذلك بأسلوب تربوي محبّب تفهمه عقليته البسيطة وليس عن طريق الوعظ والارشاد الذي يتأتى بصورة التخويف والترعيب والطفل الذي لاينفذ يتعرض للضرب او الى اية عقوبة اخرى.
ولتلافي تلكم الاخطاء التي تكون في بعض الاحيان غير مقصودة هو ترك الاطفال على سجيتهم وفطرتهم التي تتوافق وبراءتهم في التعبير عما تجيش به دواخلهم او تفيض به حيواتهم الجسدية حركات بريئة، وهذا كفيل بان ينشئ اجيالا دون تكلف او عقد تكون قادرة على استيعاب مفاهيم العيب او الحرام بشكل حقيقي وصادق.
كاتب عراقي