بقلم | هشام الهاشمي
في السابع والعشرين من حزيران,يونيو 2018 وقفت قيادة عمليات دجلة على جثث الشهداء المختطفين "رحمهم الله" وكانت هذه المجزرة أشبه ما تكون بجرس تنبيه وإنذار، للفراغات الأمنية ومراجعات لخطط مسك المناطق الهشة واستطلاع المناطق المفتوحة التي تسمى بالخواصر المريضة.
اليوم سمعت من أحد الإصدقاء وهو ضابط متقاعد عمل ضمن قوات المشاة سنوات 1991-1998 في قطاع المنطقة الشمالية والشرقية بديالى بتجاه كركوك..يقول: "كنت أعجز عن فرض السلطة والقانون في المنطقة لولا مساعدة المختارين والفرق الحزبية، لن تنجح اَي قوة عسكرية او أمنية او معلوماتية في فرض الأمن والقانون بتلك المنطقة وخاصة تلال حمرين، الا بمساعدة أهالي القرى الصغيرة المنتشرة بالقرب من تلك الوديان والتلال والأرض الوعرة، وهي بين 226-230 قرية ربما يسكنها 12-15 الف مواطن".
هذه القرى قد عاقبتهم داعش في زمن احتلالها بتهم عديدة وبعد هزيمتها من الحويجة في أيلول,سبتمبر 2017 بدأت فلولها بسلسلة من العقوبات بتهمة الصحوات والحشد والخيانة، ومنذ ان بدأت القيادات المشتركة العراقية بحملات تفتيش هذه القرى أخذت فلول داعش تهرب الى كهوف التلال والوديان العميقة، ولكنها تعود في الليل لسرقة الطعام وتنفيذ الاعدامات في تلك القرى فلا تزال بعضها لا تخلو من شماشيم وجواسيس يعملون كعيون لفلول داعش، معادلة صعبة وقعت على أفراد هذه القرى، القوات الامنية تجردهم من سلاحهم المتوسط وفوق المتوسط في النهار ولا تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، وفِي الليل داعش تعدم وتخطف المتعاون مع القوات المشتركة العراقية.
في وقت مبكّر من صباح اليوم ذهبت الى مناطق شمال العظيم مع احد الضباط في الفرقة الخامسة جيش عراقي، الطريق سالك وآمن نسبيا والتواجد الأمني كثيف، قد يساعد على عودة الطمئنية للمواطن المسافر على هذا الطريق" طريق الموت"، في طريقي الى هناك أنتبهت الى تلك المساحات الواسعة، الخالية من الزرع او حتى النباتات الصحراوية ومن البناء وحتى مطاعم الطرق الخارجية على جانبي الطريق او حتى محطات الوقود، او مصليات واستراحات الطريق ولا حتى لمراكز خدمة صحية او اسعاف فوري، والطريق خالي من كامران المراقبة او بالونات المراقبة ولَم اشاهد وجود لمركز تشغيل طائرات بدون طيار للتصوير والمراقبة، وايضاً لا توجد أكشاك لبيع المياه والمشروبات الباردة او حتى الوقود خارج محطات الوقود، طريق موحش خالي الا من سيارات مسرعة..
قال صديقي الضابط؛ "حينما جاءت داعش الى هذه المناطق أتلفت كل المرافق الخدمية التي كانت تعتمد عليه القوى الأمنية المسؤولة عن حماية هذا الطريق، وطردت الأهالي برمتهم المسلح الموالي للحكومة والحيادي المدني منهم على سواء الى كركوك وديالى ومناطق كردستان، وجرفت العشرات من البيوت على حانبي الطريق او القريبة منه بتهمة التجسس للقوى الأمنية".
في عمليات التحرير التي انطلقت لتحرير شرق تكريت في آذار,مارس 2015، نجحت قيادة الحشد الشعبي خاصة فصيل بدر، من تحقيق تواصل ناجح مع عشائر العبيد وشمر وجميلة والجبور، وكان لهذا التواصل اثرا كبيرا في هزيمة وحدات داعش خلال اقل من أسبوع..
وبقدر الصعوبة التي يُعانيها القارئ في فهم السبب المؤدي الى عودت هذه الفلول في تلك المناطق المقفرة وتقهقر مستوى الأستقرار الأمني، وخسارة العشرات من الأرواح البريئة.
وكنت قد توقعت إمكانية تكرار التكتيك القتالي لفلول داعش بطريقة المقاتل الشبح كما كان في سنوات 2010-2013، والتي كان يجيد فيها المناورة والإنهاك والاستنزاف والتمويل الذاتي والعمليات النوعية وإقامة المعسكرات في المناطق المفتوحة، وقد نجح بعدها في التمهيد لأرض التمكين والخلافة المزعومة.
عند اعلان النصر في تلعفر ألححت في اكثر من ظهور إعلامي وتدوينات في المواقع وحساباتي في منصات التواصل الاجتماعي على ضرورة ملاحقة الفلول فأن الواحد من الهاربين باستطاعته انشاء خلية ثم مفرزة ثم سرية ثم كتيبة.. ولديه القدرة العقائدية على الاستمرار والتجنيد والخبرات الامنية والعسكرية واللوجستية التي اكتسبها خلال فترة احتلالهم لمدن في العراق وسورية، غير أنه لم يكن بوسع مراصد ومجسات القوات المشتركة العراقية ان تتفاعل بجدية مع تلك النصائح.
فقد كان بعض الضباط يعتقد أن مطاردة الفلول في طول البلاد وعرضها سياسة عسكرية غير صائبة، وكانت القيادات الميدانية تفضل الاحتفاظ بالقوى العسكرية والأمنية في مراكز وأطراف المدن الحضرية، والتحرك عن حدوث خطر كاستجابة سريعة على شكل أرتال.
وهكذا خلال ستة شهور أصبحنا على أبواب انتكاسات أمنية متكررة وربما في مناطق معينة على أبواب كارثة، وليس امام القيادات الميدانية الا تغيير خططها وإعادة ترتيب أولوياتها ومن ثم تجديد الثقة بأهالي قرى الأطراف او تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم بضوابط قانونية وعقود تشغيل مؤقتة.
وتقديم الشكر والثناء لقوات المرابطة التي تصد يوميا خطر هجمات فلول داعش، شكرهم على شجاعتهم المخلصة للوطن مع الضغط الشدي الذي يقع عليهم، بسبب ضعف الدعم اللوجستي وفساد بعض الضباط والمراتب.
الضغط على ابراج المراقبة والمرابطات والسيطرات كان ولا يزال شديدا جدا، ولا بد لهم ان يتحملوه لوحدهم، فقابلوا الموت والتوحش الداعشي كما كانوا يحبون الحياة لعوائلهم، وقد ثبت الكثير منهم في أماكن منعزلة لما زرتها قلت: هذه المناطق لا يسكنها حتى الوحوش والجن، كل ذلك من أجل شعبهم ووطنهم.
اليوم تنبه قادة القوات المشتركة العراقية على تصاعد الأزمة الأمنية فيجب ان يأخذوا حذرهم وتدابيرهم.
ونحن نقدر عبء التكاليف المالية والعسكرية والتضحيات التي تكلفها حملات عسكرية وأمنية واسعة لمسح مناطق وعرة صعبة التضاريس، لكننا كمواطنين لا نرى بمثل هذا المقدار من وضوح العبء الذي تتكلف به المؤسسات الامنية والدفاعية والمعلوماتية العراقية، ولكن تفهم هذا التكليف والعبء لن يمسح دموع الارامل والثكالى واليتامى، فالمواطن المدني لن يغفر الخطر المباشر الذي يقع عليه بسبب التقصير الأمني او العسكري، والمطلوب هذه الأيام من القيادات الامنية والعسكرية والمعلوماتية العراقية تقديم الاعتذار والتنازلات للشعور الحزين لذوي الشهداء المغدورين وتعويضهم بالحقوق وبالثأر من المجرمين.
وما أسوء من الهرأ الا دعوات تسقيط القيادات العراقية التي شاركت في صناعة التحرير، فهي دعوات ساخطة وليست سوى هزيمة امام توحش داعش، أو دوافع لمزيد من التراجع في تحقيق الاستقرار الأمني، فنحن كبار بدرجة تسمح لنا أن نحاسب المقصر والاعتراف والاعتذار عن الخطأ، وتحمل المسؤولية كما يجب، وان نبدأ خطط جديدة، وعلينا أن نفعل هذا ونحن موحدين بالضد من العدو.