عباس الصباغ
على خلفية الازمة التي افتعلتها الجارة تركيا ببدء تشغيل سد اليسو الذي سيحجب قرابـة نـصف واردات دجلة المائية، الأمر الـذي دعـا الزراعة والمياه النيابية الى اطلاق تحذير من مخاطر حصول كارثة بيئية وجفاف وتصحر ابتداء من هذا الصيف. وقد تصل الخطورة الى درجة فرض انظمة القطع المبرمج على المواطنين والمزارعين لحين انتهاء هذه المشكلة. وتحت هامش تصريح الوزير المعني بهذا الملف بوجوب عدم الإسراف في استهلاك المياه وترشيدها قدر المستطاع في هذا المجال الحيوي المتعلق بالواقع المعاشي للمواطنين وعجلة الاقتصاد الوطني وواقع الزراعة والثروة الحيوانية ومنها السمكية كحل مؤقت للازمة ، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الخبرية بسيل جارف من ردود الفعل الغاضبة والقاسية وصل البعض منها الى اعلان حالة الحرب والمطالبة باستخدام "القوة" متذرعين بان ما يؤخذ بالقوة لايُسترد الا بالقوة. ناهيك عن الدعوات التي انطلقت وبغضب عارم ايضا والتي طالبت بوقف التعاملات التجارية مع الدول المسؤولة عن إحداث هذه الازمة، فضلا عن مطالبات اخرى بتدويل القضية في المحافل الدولية بعد ان اصبح سد اليسو واقع حال فقد كدت وزارة الموارد المائية ان العراق سيعاني خلال الموسم الصيفي الحالي من شح مناسيب المياه بسبب قلة كمية الامطار الهاطلة ما اسهم بتقليل خزين البلاد الستراتيجي بمقدار ثمانية مليارات متر مكعب مقارنة بالأعوام الماضية ماسيؤثر على مجمل النشاط الزراعي وخاصة في زراعة الحبوب التي تعتمد عليها مناطق الفرات الاوسط وجنوب العراق.
ونسي البعض بان القنوات الدبلوماسية التي تستند الى لغة الحوار و التفاهم العقلاني والمهني، هي اجدر برسم خارطة طريق بحل جذري لهذه المشكلة او اية حلول اخرى، فان بقية الحلول (الاجراءات) المرتجلة او المنفعلة قد تنعكس سلبا او قد تكون النتائج عكس ما يطمح اليه الغاضبون المنفعلون، والاجدى بكل الاطراف المعنية في الحكومة العراقية الجلوس على طاولة المفاوضات مع الجانب التركي وتفعيل سبل القنوات الدبلوماسية واللجوء الى القانون الدولي لتثبيت حق العراق للوصول الى حل يرضي الجميع مع اخذ تعهد اممي من تركيا قبل ان تحل الكارثة التي اشارت اليها وزارة الموارد المائية مؤخرا. وسبب ذلك الغضب والاندفاع هو طلب وزير الموارد المائية بضرورة ترشيد استهلاك وتقنين المعدلات اليومية للمياه وبعض المواطنين يقولون اين هو الماء ؟ كي يطالب منا السيد الوزير بالترشيد في استخدامه؟ .
وفي الحقيقة ان سياسة الترشيد الذي هو في ابسط تعاريفه: استخدام الموارد المتاحة بالشكل الأمثل، من خلال الاعتماد على تقنياتٍ وإجراءاتٍ محدّدةٍ دون إلحاق الأذى بإنتاجية الأفراد وراحتهم، حيث إنّ الترشيد في استهلاك هذه الموارد لا يعني منع استخدامها، بل استخدامها بكفاءةٍ عاليةٍ للحدّ من هدرها، وهي ثقافة تتعلق بالمستوى الحضاري للبلد وتعكس درجة تحضّره وتمدّنه قبل ان تكون امرا او توجيها حكوميا في الازمات، فلا علاقة للترشيد مع الازمات بل هو مطلب يومي بغض النظر عن وجود ازمة ام لا ، وهذه الثقافة تنبع في الاساس من الاحساس العالي والصادق بثقافة المواطنة الصالحة والاحتكام الى مبدأ عدم التبذير وكثرة الاسراف ووضع الامور في نصابها الصحيح، فالموارد المائية حق عام للجميع وليست حسابا مفتوحا لاي احد كان وبدون حسيب او رقيب وقد يكون سوء استخدامها مؤثرا على حقوق الاخرين فيها وقد يحرم الاستهلاك العشوائي في استخدامها، المواطنين الاخرين من استحقاقاتهم التي كفلها لهم الدستور والعرف وآليات العقد الاجتماعي، ولايندرج التخبط العشوائي في استخدامها تحت يافطة الحريات الشخصية، بل يندرج تحت عنوان التعدي على الاخرين ومصادرة حقوقهم والتي تستوجب تفعيل عقوبات رادعة ضدهم، فالمياه هي اعظم نعمة وهبها الله للإنسان الذي بدوره يجب ان يحافظ عليها ولايفرط بها او يسيء استهلاكها بحجة توافرها بشكل طبيعي ولاحاجة الى الخوف من نضوبها ومن جهة اخرى ان الاستهلاك غير المسؤول لهذه الثروة هو ليس حرية شخصية بقدر ماهي تضامنية او تكافلية، ولابد من ضوابط قانونية واخلاقية وحتى عرفية تحدد الخطوط البيانية لهذا الاستهلاك كي يصب في الدرجة الاساس في الصالح العام ومصلحة المواطن ايضا وعكس ذلك تحل الفوضى وخاصة في ايام الأزمات والمحن ولاتوجد محنة اقسى من الجفاف الذي يسببه سد اليسو .