حجم النص
بقلم:هادي جلو مرعي يطوف البلدان كسفينة تائهة في بحار بعيدة لاتنتهي، والبحار يسمونها عجائز الطبيعة التي تمر عليها السنين وهي تتطاول وتهرم وتشيخ لكنها لاموت وربما ستزول بأمر من الغيب في يوم ما كالذي يسمونه القيامة لانعلم موعده ويعلمه الله وحده. يزور المدن واحدة واحدة ويلتقي الناس ويضيع بينهم كطفل نسته أمه وتاه عنها فلم تعد تهتدي إليه في الزحام، يرى الناس يتكاثرون من حوله ولايعرفهم ولايعرفونه وهو كان يظن أنه أشهر من أن يتجاهله عامل القمامة في الشارع والمسؤول عن الخدمة في غرف الفندق، وموظف الإستقبال الذي أبدى إهتماما اكبر برجل رث الثياب دون أن ينتبه إليه برغم هيئته الأنيقة وطلته المميزة عن بقية الوافدين من السياح الباحثين عن التغيير. خرج الى الشارع وسار على البحر في إستنبول وكان يزاحم المارين الذين يتجاهلون بعضهم البعض رغم كثرتهم الكاثرة وتعدد أجناسهم والوانهم وصورهم وأحلامهم التي لاتنتهي سوى على رصيف البحر، أو حين ينشغل كل واحد منهم بشراء شئ، أو النظر الى سفينة عابرة لاقرار لها ويتخيل كم العاملين فيها والذين يقودونها وهل فيها كهرباء وماء وخدمات، يريد أن يتعرف الى حياة البحر لكنه يجهل الوسيلة وليس له من حيلة. تذكر وقوفه في المطر منتظرا إطلالة البابا من شرفة الفاتيكان في ناحية من روما، وكان يشارك الجموع تلك الوقفة، ولم يميزه رجلا الشرطة وطلبا إليه التوقف طويلا في الطابور الممتد، وحين عجز عن الإنتظار قال في سره، البابا شخص غير مهم بالنسبة لي، وسيموت في يوم وينتهي الى الذكرى كعشرات البابوات ممن سبقوه. تنقل عبر الطائرات والسفن والقطارات وسيارات الأجرة والحافلات عبر كندا وامريكا لأسابيع، وكان يدخل الفنادق منتشيا، ويزور المقاه، ويتجول في الشوارع المزدحمة ويذهل إن جميع من يصادفهم كأنهم أشباح تمر لاتعرفه ولايعرف عنها شيئا سوى إنه يراها في لحظة تنتهي الى المجهول ويطويها النسيان الأبدي ويقرر أن يعود الى غرفته، وينام طويلا فهو مجرد شبح عابر لاقرار لروحه، ويعرف رويدا إن الجسد الذي يحتمل تلك الروح المتوهجة سيندثر في تربة منسية. يالها من عبرة يستجلبها المرء بمرور الوقت حين تكبر معه الأحلام، تذكر كلمات أستاذه في الكلية الذي وجد فيه علما وفهما وتألقا في الصف، أراد منه أن لايسبق الاحلام، وأن يسايرها وذكره بقول بعيد. إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام حلمه ينتهي حين يدرك الحقيقة، لكن الحقيقة هي في مسايرة الوجود والرضا بماقرره المعبود.