حجم النص
بقلم :محمد عبد الجبار الشبوط
لا نجانب الصواب اذا قلنا ان القرآن الكريم كتاب حضارة، بمعنى انه كتاب يهدف الى الارتقاء بالمستوى الحضاري للانسان وصنع حضارته. وهذا اوسع من قولنا إن القرآن كتاب دولة او كتاب هداية. بل ان الهداية نفسها تعني رسم خارطة الطريق لبناء حضارة. ولا قيمة لدولة دون ان تكون دولة متحضرة وليست بربرية او بدائية.
بامكاننا بسهولة اثبات ذلك وقراءته بوضوح في آيات القرآن الكريم. فمنذ الوهلة الاولى يقول القرآن الكريم عن نفسه في سورة البقرة انه "كتاب لا ريب فيه هدى للمتقين". والهداية تعني اراءة الطريق للمتقين، اي للبشر الذين يؤمنون به. بعد ذلك بآيات قليلة يقول القرآن الكريم ان الانسان مستخلف في الارض. والخلافة تعني عمارة الارض وبناءها وقيادة الحياة نحو القيم التي تجسد الخلافة وتستبطنها الخلافة. وفي آيات اخرى يدعو القرآن الناس الى الانتشار في الارض واكتشاف مكنوناتها واستثمارها لبناء حياة افضل. وفي آيات اخرى يقول انه انزل من اجل اخراج الناس من الظلمات الى النور. وهو يدعوهم الى الاستجابة لله والرسول اذا دعاهم "لما يحييهم". وفي آيات اخرى كثيرة يشرح القرآن بكثير من التفصيل والتعليم السنن التاريخية والقوانين الكونية التي سوف يحتاج اليها الانسان في حركته الحضارية. تتضمن خارطة الطريق الحضارية القرآنية، اضافة الى ما سبق، تفصيلا في القيم الحضارية التي تشكل مؤشرات السلوك المنتج للحضارة والبناء السليم.
يمكن لقارئ القرآن، خاصة في شهر رمضان ، ان يبحث عن القيم الحضارية فيه، لكي يستلهمها في سلوكه الفردي والجماعي، بعد رمضان. وعلى رأس هذه القيم "الاستخلاف"، وهذه قيمة عليا كبيرة تضع الانسان في مركز المسؤول عن وجوده وحياته في الدنيا والاخرة. ونجد في قائمة منظومة القيم الحضارية القرآنية، قيمة العلم الذي جعله القرآن اساس السلوك السليم. فلا يمكن للانسان ان يتصرف بحكمة دون ان يستند الى علم سليم. ولم يجعل القرآن سقفا نهائيا للعلم، بل جعل منه افقا مفتوحا لا يحده شيء. والى جانب قيمة العلم، هناك قيمة العمل الذي جعله القرآن اساسا للتفاضل بين الناس. فليس المجاهدون، اي العاملون بجد واجتهاد، مثل القاعدين المتكاسلين. ولما كانت الحضارة لا تصنع بعمل فردي، ركز القرآن على قيمة حضارية اخرى هي قيمة التعاون الطوعي التي يقول كل علماء التاريخ والحضارة اليوم انها شرط صناعة الحضارة وتقدم المجتمعات. وكل هذه القيم لا تفعل مفعولها الحضاري بدون الانسان الحر، صاحب الارادة المستقلة، الذي يقف على قدم المساواة مع غيره من بني جنسه.
وحين تقرأ القرآن الكريم بهذا النوع من الوعي سوف تكتشف بسهولة وسرعة ان القرآن الكريم يمهد المسرح والجو من اجل اطلاق طاقات الانسان الحضارية والتاريخية. ان القرآن الكريم حين يقرأ بهذا الوعي قادر على تفجير كل قدرات الانسان والمجتمع الحضارية ويجعل منهما صناع حضارة وبناة تاريخ. لكن اذا غاب هذا النوع من الوعي، تتحول قراءة القرآن الى عمل تقليدي من اجل "التبرك" السلبي الذي لا يصنع شيئا.
أقرأ ايضاً
- إشارات من كتاب
- الأسطورة وكتابات المؤرخين
- قراءة في كتاب مديرية التسجيل العقاري في ذي قار لمؤلفه ابن خلدون .