من خلال التعريف التبسيطي للدولة والتي هي عبارة عن تجمع سياسي يؤسس كيانا ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة.وهي الحاضنة للعناصر الأساسية لها والمتمثلة بالحكومة والشعب والإقليم الجغرافي والسيادة والاعتراف الأممي بهذه الدولة، الأمر الذي يكسبها الشخصية القانونية الدولية ويمكنها من ممارسة اختصاصات السيادة على أراضيها فضلا عن استقلالها في سياساتها الدفاعية وعلاقاتها الخارجية ...نجد ان العراق وضمن هذا المفهوم لم يدخل حيز المنطق الطبيعي للدولة بمعناها الاصطلاحي ومفهومها الليبرالي الحديث الا بعد ان تحرر من منطق اللادولة الذي ساد العقود الثمانية المنصرمة ابتداءً من تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع عشرينيات القرن المنصرم وحتى سقوط آخر \"علامة \" دالة على هذا المنطق في نيسان 2003 بزوال آخر معقل للديكتاتورية فيه وان كان العراق عبر تلك العقود يتحلى بميكانيكيات الدولة وكانت الأنظمة الحاكمة تتسم بكاريزميات التمظهر الحكوماتي عبر \"المؤسسات\" التي كانت الدولة العراقية تبدو للوهلة الأولى أنها \"دولة\" تتمتع بكل مواصفات الدول، وكانت تديرها \"حكومات\" تتمتع هي الأخرى بذات المواصفات التي تتمتع بها باقي الحكومات ولكن الظاهر المكشوف من المشهد العراقي كالظاهر من جبل الجليد الطافي على سطح الماء وان كان يوحي بذلك فان باطنه في اغلب تمظهراته كان يوحي بعكس ذلك حيث كان منطق \"الدولة\" العراقية منطقا شبحيا وكان قوامها مجرد ظل متوهم لمقاربات الدول التي كان يقودها في اغلب الأحيان الحزب الواحد والقائد الأوحد (محبوب الشعب) مع سلسلة غير متناهية تبدأ من القرية التي تمثل \"البلاط\" الحاكم ولا تنتهي بالحكومة الجبروتية المتمثلة بالحاشية والأجهزة البوليسية القمعية ومراكز العسكر والمليشيات التابعة لذلك الحزب فضلا عن وسائل الإعلام المجيرة كليا للتوجه الحكومي بعيدا عن ارتدادات الرأي العام في ظل مناخات من كتم الأنفاس وخنق الحريات وسياسات البطش والتنكيل التي تصل الى مديات خطيرة في انتهاك حقوق الإنسان والتطهير العرقي والاعتقال القسري وعسكرة المجتمع وغير ذلك من العلامات الدالة على ان الشعب العراقي (الشعب هو احد أهم أركان الدولة) كان مقصيا عن ممارسة دوره كشعب من حقه أن يتمتع بمرتكزات الدولة ومنافعها كما ان الوعي الشعبي والرأي العام ومنه وسائل الإعلام كان مغيبا أيضا عن أية فعالية دولتية بمعناها الحرفي سوى العيش تحت هلامية كينونة لا يعي منها الإنسان سوى الخوف والذل والتبعية وتلاشي الحدود العامة والفاصلة بين السلطات المؤسساتية (التنفيذية والتشريعية والقضائية) مع تمييعها وتنميطها وقولبتها في مرتكز واحد وعقلية واحدة تتجسد بالمؤسسة المستبدة الحاكمة والمجيرة لكل حيثيات الدولة لصالح هيمنتها واستمرارية وجودها وليس التعايش الحر في ظل دولة لها قوام الدولة الحاضنة لمواطنيها والعيش بكرامة والتمتع بآليات حقوق الإنسان التي أقرتها الأديان والأعراف الدولية والقوانين الوضعية التي توفر الحدود المقبولة لإنسانية الإنسان..
إن منطق الدولة يعني بالدرجة الأساس التداول السلمي للسلطة والتوزيع الدستوري الصحيح للمؤسسات وضمان عدم التدخل فيها او التداخل فيما بينها واحترام أبجديات حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحرية التعبير عن الرأي فضلا عن حرية الصحافة باعتبارها السلطة الرابعة وعدم كبت الحريات او عسكرة المجتمع وجعل المؤسسة العسكرية مؤسسة وطنية للحفاظ على الأمن العام والسيادة الوطنية ودرء الأخطار التي قد تحيق بالدولة وليس مهمتها الدفاع عن السلطة الحاكمة واستبدادها، مع تفعيل الدور الرقابي للسلطات التشريعية على جميع مفاصل الدولة من ضمنها السلطة التنفيذية واستقلالية القضاء واعتماد آلية للانتخابات بكل نزاهة وشفافية مع إمكانية تشريع القوانين التي تنظم العمل الحزبي ومنظمات المجتمع المدني..ويعني منطق الدولة ايضا إقامة علاقات متكافئة ومتوازنة تراعى فيها المصالح العليا للدولة والشعب مع دول الجوار والإطار الإقليمي ومع بقية دول العالم وضمن مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخرين ، وكان من الطبيعي ان تشوب التجربة الديمقراطية الحديثة بعض الثغرات في التأسيس والأداء الا ان النضج مرهون بالتدرج في الوعي الاجتماعي والسياسي والممارسة الديمقراطية الحقيقية والشفافة وترسيخ ثقافة المواطنة وهذه كلها عناصر تدعم تمتع الدولة العراقية بكاريزميتها المتمثلة بمنطق الدولة الذي افتقدته عقودا عجافا .. تلك الدولة التي نهضت من تحت الرماد باتجاه مستقبل عراقي مشرق.
اعلامي وكاتب
أقرأ ايضاً
- توقعات باستهداف المنشآت النفطية في المنطقة والخوف من غليان أسعار النفط العالمي
- اهمية ربط خطوط سكك الحديد العراقية مع دول المنطقة
- لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ ..اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة