- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
اختلاف أسماء المدن والشوارع بين الرسمية والشعبية وطريقة معالجتها
بقلم:مصطفى فريق الفتلاوي
في السابق لم تكن المدن مثل ماهي اليوم بل كانت عبارة عن مدن بسيطة صغيرة وعدد نفوسها قليل وأهلها يعرف بعضهم بعضًا، إلّا أنّ التطور الذي حصل في الحياة البشريّة في مختلف الجوانب مع الزيادة السكانية الهائلة جعلت من المدن تتوسّع وتكبر وتتعقد أكثر حتى أضحت وكأنها متاهة، لذلك برزت الحاجة الماسّة إلى تسمية الشوارع والأحياء وترقيمها ووضع اللوحات الإرشادية والدلالية في كل مكان؛ لما في ذلك من أهمية بالغة في عصرنا الحالي.
ولأهمية هذا الموضوع سنبحثه في عدة نقاط نتطرق عبرها أهمية تسمية الشوارع والأحياء وترقيمها، ثمّ واقع التسميات في العراق بعد عام 2003م، وبعدها سوف نتطرّق إلى التنظيم القانوني لتلك لعملية ومن هي الجهات المسؤولة عن التسمية والترقيم.
أولاً. أهمية التسمية والترقيم
تبرز الحاجة الأهمية التسمية والترقيم بوصفها أهم مظاهر المدينة الحديثة وأحد معالم التخطيط الحضريّ فهي عملية حضارية متقدّمة تعكس مستوى التنظيم والتطور الذي وصلت إليه المدن، لذلك يمكن أن نلمس فائدة تسمية الشوارع والأحياء وترقيم المباني العامة والخاصة في عدة أمور هي:
1-تسهيل عملية التنقل والحركة داخل المدن من طريق معرفة أماكن النقل العام والخاص ومحطات الوقود والمترو والمستشفيات وغيرها من المؤسسات والمصالح الحكومية والخاصة بدقة، فضلاً عن أن نظام التسمية والترقيم الدقيق يلغي الطريقة المعتادة في الاستدلال على العنوان المطلوب بسؤال الناس وإجاباتهم غير الدقيقة في وصف الأماكن وتحديد موقعها اعتمادًا على الوصف.
2- اختصار الوقت والمسافات عبر الوصول إلى العنوان المطلوب بكلّ سهولة ويسر.
3- فائدة قصوى في الجوانب الأمنية والتبليغات القضائية إذ إنّ معرفة العناوين والأماكن بشكل دقيق يسهل على الجهات الأمنية والقضائية متابعة ومعرفة أماكن تواجد المطلوبين وتبليغهم بالإجراءات القضائية، وفي ذلك اختصار للوقت والنفقات، سرعة في عملية الوصول إلى المجرمين وعناوين المتقاضين أمام المحاكم.
4- سرعة وسهولة تقديم الخدمات للمواطنين سواء الخدمات المقدّمة من المؤسسات الحكومية أو الخاصة كخدمات الإسعاف والإطفاء والبريد والفواتير وخدمات التوصيل للمطاعم أو الملابس... إلخ.
5-النقطة المهمة الأخرى هي أنّ عملية التسمية والترقيم تعدّ المرآة العاكسة لتاريخ الأمم والشعوب وحضارتها عبر الزمن، فهي نافذة كبيرة أمام المجتمعات لتكريم علمائها ومفكريها ومبدعيها وقادتها في مختلف المجالات عبر إطلاق أسمائهم على المدن والأحياء والساحات العامة، وحفظ الأحداث التاريخية عند إطلاق اسم تلك الحادثة على المكان الذي وقعت فيه، إذن هي عملية تعكس الوجه الحضاريّ والتاريخيّ والاجتماعيّ للشعوب والأماكن.
6- تساعد عملية التسمية والترقيم في إنشاء قاعدة بيانات بواسطة المسح الميداني لجميع الشوارع والأحياء والمباني والمؤسسات العامة والخاصة وخارطة توزيعها، وبالتالي توفير قاعدة معلومات متكاملة عن المدينة يُستفاد منها في أغراض شتى اقتصادية وخدمية أو أمنية.
ثانيًا. واقع التسمية والترقيم في العراق
ارتبطت عملية التسمية للمدن والشوارع والأحياء في العراق ارتباطًا وثيقًا بالنظام السياسيّ القائم فهي انعكاس للأيديولوجيا أو العقيدة التي يتبنّاها النظام السياسيّ ويريد تطبيقها على المجتمع، لذلك تجد في عهد من العهود أنّ أغلب أسماء الشوارع والساحات والأحياء تحمل أسماء الدول أو العواصم العربية؛ لأنّ النظام السياسيّ في تلك الحقبة كان يتبنّى فكرة (المشروع القومي العربي والوحدة العربية)
إضافة إلى أن الجانب التاريخيّ والدينيّ كان له حيز كبير في تسمية المدن والشوارع من منذ نشوء الدولة العراقية واستمر إلى يومنا هذا فتلاحظ أنّ أسماء الشوارع والتقاطعات في المدن المقدّسة تحمل أسماء شخصيات دينية، كما أنّ أسباب نشوء المدن والأحياء كان لها النصيب الأكبر في التسمية فمثلاً (تجد تسمية الحيّ العسكريّ وحيّ الشهداء) في أغلب محافظات العراق، ويرجع سبب ذلك إلى أنّ تلك الأحياء نشأت نتيجة توزيع قطع الأراضي على العسكريين وعوائل الشهداء لا سيما في أيام الثمانينيات.
كان هذا هو الحال قبل عام 2003م ومنذ ذلك العام فقد دخلت البلاد في دوامة الفوضى وغابت الإدارة المركزية القوية وخرجت الأمور عن السيطرة وتوسعت المدن والأحياء والشوارع بشكل عشوائي واختفى التخطيط الحضريّ والعمرانيّ وتشوّهت المدن وغابت الجمالية تمامًا؛ نتيجة لضعف المؤسسات البلدية وانتشار الفساد في مفاصل الدولة ، لذلك اختفت عملية التسمية والترقيم الرسمية المبنية على دراسة دقيقة تعكس الوجه الحضاريّ والتاريخيّ والاجتماعيّ والدينيّ للعراق وحضارته، وحلت محلّها فوضى التسميات فأصبح كل من هبّ ودبّ يطلق التسميات على الشوارع والأحياء لا سيما تلك التي نشأت في المناطق الزراعية ، فصرنا نرى أسماء غريبة ليس لها أي دلالة تاريخية أو اجتماعية أو حضارية
فظهرت أسماء تافهة مثل (شارع صالون الفلاني، الشارع صيدلية الفلانية أو حيّ كذا) لا للشيء سوى أن تلك الشوارع أو الأحياء يقع في بدايتها أسواق أو محل معروف فأخذ الناس يسمون الشارع أو الحي بتلك الأسماء التافهة ، فضلا عن انشار الازدواجية في عملية التسمية بعض الشوارع والساحات لها أسماء رسمية ولكن الناس لا يتداولونها بسبب الأسماء الشعبية الشائعة، وهذه مشكلة تظهر مدى فشل الجهات الرسمية في أداء دورها و القيام بواجباتها .
ثالثًا. التنظيم القانونيّ لعملية التسمية والترقيم
عند البحث في التشريعات العراقية سنجد أنّ الإشارة إلى تسمية وترقيم المباني والشوارع والأحياء والساحات العامة قد وردت بشكل مقتضب في قانوني إدارة البلديات رقم 165 لسنة1964 المعدل وتحديدًا في المادة (46 ف 20) إذ جعلت تلك العملية من اختصاصات المجلس البلدي الذي يقوم بها بالتعاون مع الدوائر المختصّة.
والإشارة الثانية وردت في قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 12 لسنة 2008 المعدل في المادة (8 ف 6).
ويلاحظ أنّ كلا النصين الواردين في كلا القانونين جاءا مقتضبين وتعوزها الدقة. لكن النصّ الذي ورد في قانون البلديات كان أكثر سعة وشمولية من النصّ الذي ورد في قانون تنظيم المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 12لسنة 2008 المعدل. إذ منح النصّ المذكور اختصاص (ترقيم الدور والشوارع والقطاعات وتسميتها بالتعاون مع الدوائر المختصة) إلى المجلس البلدي الذي نظم قانون إدارة البلديات أحكامه إذ يلاحظ على هذا النصّ أنّه ذكر مسألة ترقيم الدور والشوارع والقطاعات وتسميتها تتم مع الدوائر المختصة، في حين نصت المادة (8 ف 6) من قانون المحافظات على (المصادقة على تسمية الشوارع وتخطيط الطرق) فقط، وجعلت تلك العملية من اختصاص مجلس القضاء الذي حلّ محلّ المجلس البلديّ الوارد ذكره في قانون إدارة البلديات بعد أن تمّ إلغاء المجلس البلدي بصدور قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم المذكور آنفًا.
ومعلوم أن المصادقة تحتاج إلى جهة أخرى تقوم بتقديم مقترح التسمية أو الترقيم للمجلس لكي يقوم بمناقشتها ومن ثمّ بالمصادقة عليها والنصّ محلّ النقاش جاء ساكتًا فلم يبيّن من هي تلك الجهة. ولم يتضمن النصّ المُلغى ولا النافذ الضوابط أو المعايير التي يتمّ على وفقها تسمية وترقيم الشوارع والأحياء والساحات العامة والمدن وإنما ترك الموضوع سائب وهذا قصور كبير لذا يجب أن تكون عملية التسمية خاضعة لضوابط محددة.
الخلاصة:
إن موضوع التسمية والترقيم يعدّ من الموضوعات المهمة في مجال التخطيط العمراني والحضاري للمدن ناهيك عن أهميته الأمنية والقضائية والجمالية. لذلك فأن الاهتمام بها ضروري جدًّا عبر مراعاة الأمور الآتية:
إعادة النظر بالتنظيم القانوني لعملية التسمية والترقيم، وذلك من خلال تعديل قانون إدارة البلديات الحاليّ وجعل هذه العملية من اختصاص دوائر البلدية وبمصادقة المحافظ، إضافة إلى وضع ضوابط معينة تتمّ على وفقها عملية التسمية والترقيم، وإلغاء النصّ الموجود في قانون المحافظات الذي يمنح ذلك الاختصاص لمجالس القضاء المعطلة حاليًّا.
أن تتمّ عملية التسمية بالتعاون بين البلدية والدوائر الأخرى ذات العلاقة كالدوائر المعنية بالسياحة والآثار والتراث التابعة إلى وزارة الثقافة والسياحة وأي دائرة أخرى لها صلة بالموضوع.
تثبيت التسميات الرسمية للشوارع والأحياء والساحات العامة عند المباشرة بإنشائها، وقبل مبادرة الأهالي إلى إطلاق التسميات الشعبية والمحلية عليها والتي عادة ما تكون غير ذات دلالة تاريخية أو اجتماعية وحضارية أو دينية وبعيدة أيضًا عن الذوق العام.
حلّ مسالة ازدواجية التسمية بين الأسماء الشعبية والرسمية وذلك بتثبيت ما هو حسن منها ورفع الأسماء غير المناسبة منها ووضع العلامات الدالّة عليها وأيضًا تثبيت تلك التسميات في المعاملات الرسمية، وكذلك تلافي مسألة التكرار والتشابه في الأسماء إذ تجد شارعًا مسمّى باسم شخصية معينة في ثلاث محافظات، فضلاً عن إطلاق حملات التوعية والتثقيف بشأن أهمية موضوع التسمية والترقيم الحضارية والتنظيمية والجمالية.
أقرأ ايضاً
- المسؤولية المدنية المترتبة عن استخدام الذكاء الاصطناعي
- كرة القدم والأجواء الحارّة.. الأضرار والمخاطر الصحية ومعالجتها
- صواريخ المستشار ضد المدنية