بقلم: وجدان عبد الامير
يُعد السعي لتشكيل الهوية الاجتماعية حراك بشري كوني، لا توجد بقعة بشرية لا تمتلك هذا الحراك، ولكن التساؤل هو: ما هي آثاره وانعكاساته على المجتمعات؟
يعيش الفرد في المجتمع العراقي في محيط تسوده تيارات ثقافية مختلفة وأُطر ايدلوجية متنوعة، أثرت بشكل مباشر على سلوكياته الاجتماعية المختلفة. وإن آثار تلك السلوكيات ظهرت في بروز العنف والتطرف تجاه مختلف القضايا التي تواجهه وتجاه الجماعات التي هو عضو فيها او خارجها، من خلال مفهومه عن ذاته، الذي يتغذى من احساسه كونه عضواً في جماعة إجتماعية معينة، وانعكاس ذلك على هويته الاجتماعية وموقعه الاجتماعي الذي يضعه في دور معين يتحقق من خلال مكانته الاجتماعية.
والشعوب تتكون من جماعات تتنوع باختلاف هوياتهم وقومياتهم واديانهم وتوجهاتهم، فالجماعة هي تكتل بشري لديها خصائص تختلف عن خصائص الافراد الذين يشكلون هذه الجماعة، بحيث يصبح هذا الجمهور خاضع للوحدة العقلية للجماهير، فروح الجماعة تذيب الشخصية الواعية للافراد وتوجه مشاعرهم وافكارهم باتجاه واحد؛ فيتشكل الجمهور النفسي الذي يكتسب خصائص عامة ومؤقتة، ولكنها قابلة للفرز والتحديد. فأياً تكن نوعية الافراد الذين يشكلون هذه الجماعة، واياً تكن انتمائاتهم وانماط عيشتهم، فإنهم عندما يكون جزء من هذا الجمهور سينزع عنهم الخصائص الفردية ويستبدلها بروح جماعية تجعلهم يفكرون ويشعرون بنفس الطريقة، فنلاحظ ان الفرد المنخرط في الجماعة مختلف عن الفرد المعزول عنها.
ولأن الحرمان من الهوية الاجتماعية قد يقود الفرد الى عدم الرغبة في الحياة والى التشتت، بسبب عدم القدرة على تحديد الهوية الاجتماعية وادارتها والسيطرة عليها، تلك التي تخلق مكانته الاجتماعية في محيطه الاجتماعي؛ لذا يكافح الافراد من اجل تعزيز مفهوم ايجابي عن ذواتهم مما يدفعهم للمحافظة على هوية اجتماعية إيجابية (من وجهة نظرهم) ترفع من تقديرهم لذاتهم عبر اجراء مقايسات اجتماعية بين جماعاتهم والجماعات الاخرى.
اما في حالة نشوء سمات غير مقبولة للجماعة التي ينتمي اليها الفرد، قد تفرز هوية سلبية، مما يدفع بعض افرادها إما الى ترك جماعتهم والانتقال الى جماعة اخرى، او ايجاد وسائل تحقق لهم التمييز الايجابي لتجاوز الصورة السلبية التي اصطبغت بها تلك الجماعة كمدرك اجتماعي. لذا نجد إن الهوية الاجتماعية تؤدي دور الذات الجمعية في نشوء ظواهر الجماعات، فاصبحت بمثابة الجسر بين الظواهر الجمعية من جهة والسلوك المعرفي والاجتماعي من جهة، لانها تنبثق من التفاعل بين (العمليات النفسية) (والقوى الاجتماعية) التي تؤسس تلك العمليات.
فالافراد بمجموعهم هم الذين يحركون روح الجماعة، وليس الفرد العنصر لان مكوناته الشخصية حينها ستذوب داخل مكونات الجماعة، فتتسم عواطف الجماهير واخلاقها بمجموعة من المميزات اهمها سرعة انفعالها وخفتها، فالشخص داخل الجماعة يوجه من قبل اللاوعي الجمعي، ولا يتصرف الا على هوى التحريض والاثارة ونادراً ما يستخدم عقله الفردي، فنجد اغلب هذه الجماهير تكون ساذجة، تصدق كل شيء يقال لها بدون اي تفكير او تروي، لان افرادها شاردة باستمرار على حدود اللاوعي الجمعي، وتتلقى بطيب خاطر كل الاقتراحات والاوامر منه.
إن للجمهور الجمعي عواطف خاصة واخلاقيات تنزع بها نحو التطرف والتشدد، فلا تقف عواطف الافراد داخل الجماعات الى حد المسايرة؛ بل تتعدى الى تضخيم كل شيء مهما كان بسيطاً، فالعواطف التي تعبر عنها الجماهير تتميز بطابع مزدوج، فمن جهة تكون مضخمة ومن جهة اخرى مبسطة. وهذا يدفع الافراد داخل المجموعة في أن تكون مستبدة اتجاه الاخر المختلف، لانها لا تعرف سوى العواطف البسيطة والمتطرفة لذا فهي لا تسامح مع المخالف ابداً.
واياً كانت الافكار التي توحي للجماهير او تحرض عليها، فهي لا يمكن ان تصبح مهيمنة الا ان تتخذ هيئة بسيطة جداً، فالافكار لكي تكون مقبولة ينبغي ان تكون بسيطة جداً حتى تكتسب شعبية وقبول لدى العناصر المكونة للجمهور، لذا لا تكون منطقية الافكار غالباً هي الاكثر تأثيراً وقبولاً وانتشاراً بين فئات واسعة من الجماهير.
وحينما تنغرس فكرة معينة في نفوس الجماهير فإن اقتلاعها امر صعب وغير ممكن، وهنا تصبح الفكرة اكثر قوة مما يجعل تغييرها امراً صعباً وقد تنتج عنها سلسلة من النتائج و الانعكاسات السلبية.
وقد تؤثر بعض الحجج العقلية في بعض الاحيان في اقناع الجمهور، غير إن تأثيرها يبقى تأثيراً بسيطاً اذا ما قارناها بغيرها من الافكار التي تستهدف العاطفة لان الجماهير تتحرك بالعاطفة اكثر من العقل والمنطق. فالافراد يتحركون بعد إنشاء مجموعة مشاعر جمعية حددتها الاراء الجمعية وعقائدها، متأثراً بعدة عوامل اهمها العرق والتقاليد الموروثة، فيصنعون الشعارات والصور المرتبطة بمخيال هذه المجاميع ذات الهوية الاجتماعية الجامعة، والتي تضخم من صورتهم وغالباً ما تقوهم الى الاوهام الجمعية التي يتأثر بها الجمهور بقوة. مما يخلق التصنيف الاجتماعي الذي يقود الى التعصب باللجوء الى استراتيجيات التحيز المعرفي.
وبالعودة الى عالم النفس تاجفل فأنه يرى ان تكوين الهوية الاجتماعية عند الافراد داخل المجموعة تمر بثلاث مراحل، الاولى هي تصنيف الفرد نفسه كأحد اعضاء المجموعة، وأن يدرك انتمائه لها والدور الذي ينبغي ان يمارسه فيها، اما في المرحلة الثانية، فإن الفرد سيتحدث بصيغة الـ(نحن) اي بصوت الجماعة، ويسلك وفقاً لدوافعها واهدافها، ويبرز مكانتها وانجازاتها، وفي المرحلة الثالثة، يبدأ في المقارنة بين جماعته والجماعات الاخرى، بتمجيد مجموعته والانتقاص من الجماعة المخالفة فيكون هناك مفهوم الـ(هم) في قبال الـ(نحن). وهذه المقارنات هي التي تخلق الحقد والكراهية وربما تؤدي الى الى الصدامات بين الجماعات المختلفة. وكلما اعتز الفرد بمبادئ المجموعة التي ينتمي لها كلما زاد من الحديث بصيغة الـ(نحن) وبالتالي تزيد مكانته الاجتماعية فيها.
احياناً يكون ولاء الفرد مطلق لمجموعة معينة، وحينها قد يخلق طاغية لهذه المجموعة من خلال انتمائه بعلاقة مقدسة مع المجموعة. وبذات الوقت قد تكون الانتماءات الاخرى التي يؤمن بها اضعف كاللغة والقومية فاستدعائها لا يكون بشكل دائم؛ بسبب ضعف الدولة المركزية (ذات النزعة العصبية) كما هو وضع العراق، يدفع بالافراد الى استدعاء احد الانتماءات العصبية بشكل مكثف وفجأة تصبح هي الانتماء الطاغي على تصرفات الفرد وسلوكه وكلامه.
اما اذا كانت المنظومة ذات مبنى هرمي وتتميز بعدم المساواة في توزيع ثرواتها وسلطتها؛ فسيتسم الوضع الاجتماعي بـ(المركزية العرقية)، وغالباً ما يكون احادي الاتجاه من المجموعة ذات المكانة العليا الى المجموعة ذات المكانة الدنيا، لان المجموعة الدنيا تُذَّوب التقدير الاجتماعي حول دونيتها وتستنسخه لدرجة ابخاس قيمتها الذاتية فيبدأ افرادها بالبحث عن ترقيتهم لمجاميع اخرى اعلى، ولا يعلنون الصراع الا في حالة تحديد نقطة الثقافة التي تصفهم بالدونية وحينها يتم رفض شرعية الواقع الاجتماعي ويتمردون على الواقع الاجتماعي الراهن ويسعون الى تغيير موقعهم المتدني باتجاه افضل.
ويعمل افراد الجماعات ممن لديهم مكانة سلبية (دنيا) على تغيير هويتهم الاجتماعية بشكل ايجابي من خلال ثلاث استراتيجيات: الاولى هي الحراك الفردي: اي تغيير الوضع الاجتماعي للاشخاص وتحركهم من الاسفل الى الاعلى لاجل توسيع فرص افضل للفرد داخل المجتمع. الثانية هي الابداع الاجتماعي: من خلال طرح معايير جديدة وتغيير قيمة الصفات السلبية المستخدمة لوصف المجموعة الداخلية (مثلاً خسارتنا ستجعلنا اقوى). والثالثة هي التنافس الاجتماعي: فالوعي بوجود جماعة معارضة له دور كبير في احداث دافع لاجل التعصب والمنافسة بين الجماعات.
الفكرة الجوهرية هو إن التشكيل الهوياتي للجماعات لا ينفك من كونه سلوك بشري يحمل في طياته افرازات ايجابية واخرى سلبية، فتوحد الافراد وسيرهم الجمعي وإن كان لا واعياً يخلق منهم قوة حامية لهذه المجاميع وقادرة على تحقيق اهدافها، اما الجانب السلبي لهذا السلوك الاجتماعي فيتجلى في اسوء صوره في التعصب والتطرف تجاه المختلف والذي قديتدفع الى الصدامات وربما الى الحروب.
أقرأ ايضاً
- الاطار وتشكيل الحكومة
- حقيقة الدعوات لتشكيل حكومة الطوارئ
- لمرور سنة على تكليفه :محمد توفيق علاوي يكشف بعض الحقائق بخصوص تشكيل الكابينة الوزارية