بقلم: حسن كاظم الفتال
يوم دفعنا الشوق أو الفضول أو قل الرغبة وهي أقرب للإقناع في أن نتعرف أو نطلع على أكثر من جنس من أجناس المخلوقات.
ومثل هذه الرغبة تحتم علينا تنظيم زيارة خاصة إلى حديقة الحيوان، كان ذلك اليوم لم يختلف كثيرا عن أي من الأيام لا مناخيا ولا طقسيا ولا فلكيا إنما تعين علينا استثمار ساعاته دون أن نهدر أي جزء منه كما اعتدنا التعامل مع الأيام الأخرى التي انصرمت من سنوات حياتنا . وتحققت الرغبة بالفعل .. وحين دخولنا مثلما تنوعت المشاهد تغيرت المشاعر و اختلفت النوايا والمقاصد وصارت تتوزع بين النزهة وبين الإطلاع والتعرف وبين قضاء وقت جميل بالتعامل مع مخلوقات نعلم جيدا ما ينقصها من الكثير مما نمتلك نحن ولكنها رغم ذاك تتمتع ولعلها تفخر بذلك ببعدها عن التعقيدات والتناحرات والتصادمات والتجاذبات والصراعات خصوصا حين لا يتاح لها أن تلتقي كثيرا فيما بينها بسبب العزلة التي فرضت عليها فأصبحت غير معنية بما يجري خارج أقفاصها المشرفون والحراس ويبدو أنهم المتنفذون في ذلك المكان ولعلهم سادة الموقف كانوا يحاولون إشعارنا بأنهم أكثر حرصا على سلامتنا من غيرهم.
حين يكررون التحذير من الأقتراب من أي حيوان خصوصا المفترس منهم مما جعلنا نحسب ألف حساب قبل أن نشاكس أو حتى نغازل أيا من الحيوانات إلا القرود التي هي أكثر ذكاء من سواها وأكثرها اشتهارا بالمشاكسات وبالمساومات والمصالح المتبادلة.
وباغتنامنا فرصة انشغال المروضين عنا كنا بين الفينة والأخرى نتجاهل أوامرهم ونباغتهم فنفلت من دائرة تحذيراتهم لنقترب أكثر وكلما شاهدنا حيوانا ازدادت الرغبة فينا في أن نتعرف على طبائعه وشمائله وتصرفاته . ونتسمع للأصوات .. حتى إذا اختلطت علينا وتعسر علينا أن نميز بين زئير الأسود وحفيف الأفاعي ونفث سمومها. وقباع الخنازير وحمحمة الخيول وزمار النعامة التي تدس برأسها في الرمل أحيانا لتخدع نفسها.
وما كان يجعلنا أكثر اطمئنانا هو حبس الحيوانات المفترسة وغيرها في أقفاص حديدية لا يمكن الإنفلات منها إلا بمساعدة الحراس والمروضين إذا رغبوا في ذلك .ولا أظنهم يرغبون.
لم يمضِ الكثير من الوقت في جولتنا حتى استوقفنا مظهر مسكن ملك الغابة ـ لا أراكم الله أنيابه ـ وهو يبرك تارة بجلسة غضنفرية أو يتخطى بخطى واثقة رزنة لم يكلف نفسه أن يلتفت ليرنو بطرفه نحونا حين وقفنا أمامه مبهورين مذهولين بضخامته ولا ندري أمتظاهرا كان أم متجاهلا حقا أم أنه لم يشعر بوجودنا فعلا ؟ ولم يمنعنا ذلك من أن نقف أمامه بصمت تام ليس احتراما منا بل خوفا من أن توسوس له نفسه فينفلت من شقته الحديدية ويهجم علينا فيسرط كل واحد منا بسرطة واحدة.
وحين تجرأ أحدنا في ممازحة حضرته ما كان منه إلا أن يزأر زأرة جعلتنا نستبق الباب وكاد أن يردم بعضنا بعضا . ولم يسعفنا حينها إلا فأر صغير وكح كان جديرا بأن يذيب فزعنا أو يحيله إلى دهشة وذهول بل لعله عمد إلى أن يحول احترامنا لوقار الأسد إلى خيبة ظن وكي لا نحسب لهيبته أي حساب من الآن فصاعدا حين تسلل دون استئذان وبطريقة غير مهذبة إلى عرين الأسد متخذا بقفزة واحدة من ظهره مستقرا له . غير آبه بكل إمارات الهيبة والوقار وهو الذي كاد أن يفسد علينا متعة تلك الجولة . فعل ذلك قبيل انصرافنا بوقت قصير جدا لذا اضطررنا أن نعاود الوقوف طويلا ونميل بأنظارنا إلى جناب الفار المخترق سور حضرة الأسد دون استئذان أن لا ننصرف بل نطيل النظر إلى الفأر .
لم نكن مخطئين حين حسبنا أن الأسد بغضبه المعهود أنه سيعفص الفأر بجزء من مخلبه وما زاد عندنا الدهشة أنه لم يفعل ما كنا نتوقعه .
إيمان الفأر بغياب المعاقب المحاسب جعله يطمئن كثيرا و يتجرأ بالتنقل بكل حرية واطمئنان من عضو إلى عضو من أعضاء جسد الأسد الكريم وكلما ازدادت حركات الفأر ازداد تجاهل الأسد ونحن نطيل النظر لا ندري من منهما الذي يود أن يبعث رسالته إلينا .
وما جعلني أخالف قاعدة الأمثال أو القول المأثور ( الأمثال تقال ولا تقاس ) وأتأكد أنها تقال وتقاس هو قول صاحبي حين قال عند مشاهدته ذلك المنظر ( لو غاب القط ألعب يا فار ).
وبسبب غياب الرادع ظل الفأر يتصرف وكأنه يؤدي رقصات على مسرح السيرك بطريقة ساخرة وكان استهتاره يدهشنا. رحنا نمعن النظر وكأن أنظارنا التصقت به فهو مرة يجلس على ظهر الأسد وأخرى يلحس أذنه ومرة يقترب من رأسه ليجعل نصف جسمه متدليا على جبهة الأسد . أنستنا الدهشة كل شيء وأخذت منا مأخذها حتى أصبحنا أكثر حاجة لمن يبعد عنا هول المنظر . إنما لم يحدث ذلك بل ازدادت الدهشة حين قفز الفأر على حين غرة بسرعة البرق وانزوى وهو يرتعش ويتصاغر وصار يبدو اصغر من حجمه بكثير منكمشا في زاوية ضيقة من زوايا عرين الأسد .
مما حتم علينا أن نتحرى عن سبب حدوث هذه الخاتمة وبينما راح البعض يسأل البعض الآخر وقع نظر أحدنا على قطة صغيرة لا ندري كيف اخترقت هي الأخرى عرين هذا الأسد المسكين الذي أوشك أن يتضاءل احترامنا له .
يبدو أن هذا المنظر كان كفيلا بأن يحول الذهول والدهشة والفزع إلى شفقة على هذا الفأر المسكين الذي أولد لدينا تساؤلات كثيرة . ما الذي حدث له ؟ أين استهزاؤه بحضرة الأسد ؟ أين ألعابه ( البهلوانية ) وحركاته ( الإكروباتيكية) ؟
ليس غريبا أن يختلط الحابل بالنابل ويغيب الفهم منا ويزداد اللبس والإلتباس . وأن يبرر ذلك استعانتنا بمن يفسر لنا غوامض الأمور ويعرفنا على ما يدور حولنا وخير معين لنا مروضو الأسود والحيوانات الأخرى .
ولم يمتنع المروض عن إعانتنا إنما وقف يتأوه ويتنهد وبعد أن رمق القطة والفأر والأسد بنظرة وكأنه يحاور كلا منهم بدا يكسر صمته حين التفت إلينا متسائلا : كيف يتعسر عليكم تفسير ذلك ؟ هل صادفتما من قبل اجتماع فأر مع قطة في مكان واحد ؟ أليس من الطبيعي أن يهرب الفأر لمجرد إحساسه بوجود القطة في مكان تواجده ورد علينا حين سألناه عن عدم اهتمامه بحضرة الأسد قائلا :
كان عليكم أن تدركوا بأن هذا الفأر اقل بكثير من أن يدرك مقام هذا الأسد فهو على يقين بأن هذه القطة الصغيرة حين تظفر به تكون أكثر قسوة عليه من غيرها
ألا ترون أن لا يخاف العظماء إلا من العظيم.
أقرأ ايضاً
- تعديل قانون الأحوال الشخصية (تمخض الجبل فولد فأرا)
- أهمية لقاء الرئيس بوتين بالرئيس الأسد لسوريا
- كائنات فضائية تستضيف جاسم الأسدي