- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإقتصاد العراقي .. مأزق الحالة ، وإشكاليّة الحَلّ
بقلم: د. عماد عبد اللطيف سالم
سعر خام برنت "المبارك" هذا اليوم 19-7-2020 .. هو 43.10 دولار للبرميل .
و على وفق تقديرات معدل السعر السنوي لخام برنت ، يتم عادةً تقدير سعر بيع نفطنا المُبارَك ، في موازنتنا العامة المُباركة للسنة المالية غير المباركة 2020 .. وهي الموازنة العامّة ، المُستمرّة في غيابها "الطَوعي" المُبارك ، منذ ما يقرب من عام .
يُقدّر حجم النفقات العامة في هذه الموازنة "الغائبة"، أو "المُغيّبَة" ، بـ 100 ترليون دينار عراقي مُبارك ، أي مايعادل 80 مليار دولار أمريكي (غير مُبارك طبعاً).
ولكن .. ليس كلّ نفط العراق المُبارك ، هو نفطٌ خفيف ومُبارَك . فالكثير من نفطنا ثقيلُ ، مثلنا ، وغيرُ مُبارَك.
ومعدّل سعر بيع نفطنا المُبارك، هو أقلّ من سعر بيع خام برنت غير المبارك بما يتراوح بين 6 إلى 9 دولار للبرميل الواحد.
لذا فإنّ سعر بيع النفط المُقدّر في الموازنة العامة للسنة الماليةُ ، سيتراوَح ، أو يُفتَرَض أن يتراوح (كتقدير شخصيّ) مابين 26-30 دولار للبرميل.
هذا يعني أنّ عجز الموازنة غير المبارك سيزداد .. وأنّ ازماتنا الماليّة ، والأقتصادية ، والإجتماعية ستتفاقم ، خاصةَ مع فشلنا الكارثي في التعامل السليم مع تفشي وباء COVID 19 ، وعجزنا عن إجراء مقايضة مُنصِفة بين موت الناس "بايولوجيّا" من الوباء ، وبين موتهم "أقتصاديّاً" نتيجة معاناتهم من تفاقم البطالة ، وارتفاع معدلات الفقر بين السكان.
وهذا يعني أنّ التقشّف غير المبارك سيزداد ، وستكون رواتب الموظفين والمتقاعدين ، ومصادر رزق ذوي الدخول المحدودة ، غير المباركة جميعها، هي الضحيّة المباركة لكل ذلك .
ويُقدّر إجمالي الرواتب "تعويضات المشتغلين" شهريّا بـ 3.3 ترليون دينار ، بينما تٌقدّر رواتب المتقاعدين بـ 1.3 ترليون دينار شهرياً ، أي بما مجموعه 4.7 ترليون دينار شهرياً (56.4 ترليون دينار سنويا) .
وإذا كانت هذه "التقديرات الشخصيّة" ، منطقيّة ، أو قريبة الى واقع الحال ، فإنّ هذا يعني أن رواتب الموظفّين والمتقاعدين تشكَل مانسبته 56.4 % من إجمالي تخصيصات الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2020 ، وهذه أعلى نسبة ، أو "حصّة" للرواتب في الموازنات العامة للدول ، من بين جميع بلدان العالم.
وكتقديرٍ شخصيٍّ أيضاً ، فإنّ الحكومة (حتّى اذا ارتفعت أسعار النفط بمعدلات طفيفة لغاية نهاية هذا العام) ، وحتّى إذا كانت قادرة على الإستمرار في دفع رواتب شهري تموز وآب 2020 ، فإنها قد تكون عاجزة عن ذلك (أو انّها قد تواجه صعوبات جمّة في "تدبير" ذلك) في أيلول 2020 .. وأنّ الأوضاعَ ستزدادُ صعوبةً في الأشهر التي تليه ، ما لم تقم "جهة ما" بتقديم "حُزمة" إنقاذ عاجلة ، لتلافي ماهو أسوأ من عدم قدرة الحكومة على دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين، إضافةً لتأمين مايكفي من أموال للإيفاء بالتزاماتها الأساسية.
وفي آخر تصريحٍ نقلتهُ وسائل الإعلام عنه ، يقول السيد وزير المالية : "أنّ إقرار الموازنة العامة الإتّحاديّة لعام 2020، أمرٌ مُستبعَد" .. (ليكون حالها في ذلك حال موازنة 2014) .. "وأنّ الحكومة تعمل على التحضير لموازنة العام القادم 2021 ، حيثُ نحتاج إلى 7.5 ترليون دينار شهرياً للنفقات التشغيلية ، وسنستمر بالإقتراض من المصارف المحليّة لتمويل الرواتب والنفقات الحاكمة" .. وأنّ الحكومة قد تلجأ إلى الإقتراض الخارجي ، لمعالجة الأزمة المالية .
و يُفتَرَض "إقتصاديّاً" (وهناك من يُصِرُّ على أن لا يعمل قانونٌ إقتصاديٌّ واحدٌ بطريقةٍ منطقيّةٍ في العراق) أن يرتفعَ سعر الدولار الأمريكي مقابل الدينار العراقي ، وأن نتمكّن من ضبط ايقاع ذلك الإرتفاع (إنْ حَصَل) ، بحيث تكون لهُ آثار أيجابيّة مباشرة وغير مباشرة .. وأن نتفادى قدر الإمكان آثاره السلبيّة على الإقتصاد .
إنّ سعر الصرف هو أحد "مفاتيح" الحلّ ، ولكنّ البنك المركزي المبارك مازالَ بوسعهِ الدفاع عن سعر صرف الدينار "الحالي" المبارك ، في ظلّ جميع هذه التوقعات "العقلانيّة"غير المباركة .. وسيبقى ذلك يحدثُ ، ويحدثُ ، إلى أن يقضي اللهُ (وليس "أرباب" السياسة والإقتصاد في هذا البلدِ "المُبتلى") .. أمراً كانَ مفعولا.
والآن ، وبعيداً عن "الإجتهادات" ، و "التقديرات الشخصية" للبيانات ، سنحتكِم إلى دراسة مهمّة ، ورصينة ، ودقيقة التوثيق ، أعدّتها مجموعة من العقول العراقية الجميلة ، العاملة في جامعة الكوفة ، وفي الجهاز المركزي للإحصاء ، وأصدرتها في آيار/ مايو 2020 عن مركز الرافدين للحوار ، وهي بعنوان : " دراسة حالة : الفقر ومستويات المعيشة في العراق في ظل تداعيات أزمة كورونا" .. ومن أهم ماتضمّنتهُ هذه الدراسة ، ما يأتي * :
- في كانون ثاني/ يناير 2020 بلغت ايرادات صادرات النفط الخام 6.163 مليار دولار ، بمعدل سعر 60.139 دولار للبرميل الواحد.
- في نيسان / أبريل 2020 انخفضت ايرادات صادرات النفط الخام إلى 1.423 مليار دولار فقط ، بمعدل سعر 13.81 دولار للبرميل الواحد.
- كان حجم الناتج المحلي الإجمالي المتحقق في عام 2019 قد بلغ نحو 262.9 مليار دولار .. وبسبب التأثير المزدوج الناتج عن انخفاض أسعار النفط ، وانخفاض الأنشطة الإقتصادية الأخرى بسبب تأثيرات "كورونا" ، فإنّ حجم هذا الناتج لعام 2020 قد ينخفض (بافتراض معدل سعر للنفط قدره 30 دولار للبرميل ، على وفق أفضل السيناريوهات ، وأقربها الى المنطق) ، ليكون في حدود 169 ترليون دينار فقط ( حوالي 142 مليار دولار). وهذا يعني أن الأزمة المزدوجة هذه قد تتسبّب في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2020 مقارنةً بسنة 2019 ، بنسبة 36% .
- كان عدد الفقراء في عام 2018 ، يقدّر بحوالي 7.4 مليون فقير ، بنسبة فقر قدرها %20.5. واستناداً لسيناريو انخفاض الدخل أو الإستهلاك بنسبة 10%(وهو سيناريو "الحالة الأساسية" الأقرب الى الواقع في ظل الأزمة الحالية) ، فقد قُدّر خط الفقر في العراق لعام 2020 بحوالي 123.200 ألف دينار / فرد / شهر . ومن ثمّ فإنّ نسبة الفقر المقدّرة على وفق هذا السيناريو هي 22.8% ، وقُدّر عدد الفقراء بـ 9.120 مليون فقير.
كلّ هذا يحدثُ ، واتّفاق ايران المبارك ، مع الدول الكبرى غير المباركة ، حول ملفّها النووّي المُبارك ، يتعرّض للضربات "الترامبيّة" غير المباركة ، ليرتدّ أثرُ الضربات علينا ، في السياسة ، والأمن ، والإقتصاد.
ولمن يسأل سؤالهُ التقليدي عن "الحَلّ" في هذه "الحالة" ، فإنّ هناك الكثير من الحلول التي تمّ عرضها مراراً وتكراراً على "صُنّاع القرار" في هذا البلد .. وهناك الكثير من الخطط والسياسات والإستراتيجيات التي تمّ أقرارها (من أعلى المستويات التشريعيّة والتنفيذيّة)، وتمّ ركنها كلّها على الرف ، ليأكلها غبار الإهمالِ والتجاهلِ والنسيان .. وسواءً إتّفقنا أم لم نتفّق مع وزير المالية الحاليّ ، فإنّني شخصياً لا أعتقدُ أنّهُ بحاجةٍ لمن "يُنظِّرَ" لهُ بهذا الصَدد .. كما أنّهُ أيضاً ، ليس بحاجةٍ لأن يجلس مع مجموعة من الخبراء والمستشارين ، ليُعيدوا معاً إكتشاف العَجَلَة من جديد ، لكي يضعوها تحت هذه العَرَبة المُتهالِكة المُسمّاة "الإقتصاد العراقي".
ما نحتاجهُ نحنُ ، وما ينفعهُ "هوَ" ، ليس المزيد من "تنظيرات" و "أجتهادات" الخبراء والمستشارين .. بل أن تكون لنا مصالح سياديّة عليا "مُقدّسة" ، تتفّقُ عليها "الأطرافُ" السياسية المُتحكّمةُ في هذا البلد ، وتُدافِعُ عنها بضراوة ، وبإرادةٍ سياسيةٍ لا تلين.
ما نحتاجهُ "نحنُ" ، هو أن نعي أنّ لا بديل أمامنا للخلاص من أزماتنا الإقتصاديّة المركبّة ، غير الإصلاح الشامل والجذريّ .. وأنّ هذا الإصلاح لهُ كلفة .. وأنّ هذه الكلفة قد تكونُ باهظةً جداً .. وقد نستمِرُّ في دفعها لخمس ، أو عشر سنين قادمة .. نحنُ الذين لا نصبِرُ على تأخير دفع رواتبنا ، لمدّة خمسة أيّامٍ فقط ، لا غير.
هذا العام 2020 لا يبدو مُبارَكاً أبداً ، منذ بدايته غير المباركة ، وحتّى هذه اللحظة التي يُفتَرَضُ أنّها مُباركةٌ الآن.
رئاسات ثلاث مُبارَكة ايّها العراقيون .
مجلس نوّاب مُبارَك .
حكومة مُبارَكة .
وزراء مُبارَكون .
برنامج حكومي مبارك .
و لكن .. مع أسعار نفط غير مُبارَكة (خارجيّا) .. ومع الفوضى والتخبّط وإنعدام الأفق (داخلياً) ، فانّ الكثير من الأشياء قد تكونُ غير مُبارَكَة الآن أيّها العراقيّون .
الكثير من الأشياء ، لن تكون على ما يُرام .. لا على المدى القصير ، ولا على المدى المتوسّط .
في الأجل الطويل ، قد يحدثُ ذلك .. أي قد تكونُ بعضُ الأشياءِ على مايُرام.
غير أنّ الكثيرينَ منّا ، سيكونون موتى ، ولن يكونوا شهوداً على ذلك .. في ذلكَ الأجل الطويل.
لذا ..
صبراً جميلاً .. أو هجراً جميلاً ..
أيّها العراقيّون المُبارَكون.
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً