عباس الصباغ
لايختلف اثنانِ على أن الدستور العراقي الدائم الذي كُتب على عجالة في الفترة التي وُصفت بالانتقالية والحرجة، كان وما يزال حمّال أوجه ومازالت الكثير من متونه تخضع لتفسيرات وتأويلات يغلب عليها المزاج والتنظير الكيفي والعشوائي، فالكثير من مواده فُسّرت تفسيرا مغلوطا وربما حملت أبعادا قانونية هي بالضد من حمولاتها، ومنها المادة (38) والخاصة بحرية التعبير وهي مادة ذات طبيعة هلامية وفضفاضة جدا ومثيرة للجدل وفيها الكثير من البنود المتشابكة : [ الفصل الثاني ـ الحريات: المادة (38) تكفل الدولة وبما لايُخلُّ بالنظام العام والآداب: اولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل . ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر. ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون] والتي أصبحت مثل قميص عثمان، يرفعه البعض حسب مزاجه الخاص ويفسّرها حسب رؤيته الخاصة .
وكان على فقهاء القانون الدستوري التأنّي وعدم الاستعجال، والاستعانة بخبراء دوليين ودستوريين في كتابة هذا الدستور الذي يوصف بالدائم، ولكنهم لم ينتبهوا الى إن كتابة الدستور وعلى عجالة سيقود الى ملئه بمطبات وثغرات وقنابل موقوتة ستكشف عنها متغيرات الزمن باعتبار إن الظروف السياسية في تغير مستمر في ظل مشهد مأزوم ومضطرب ويعيش وسط مناخ اقليمي/ دولي عاصف ومليء بالمفاجآت الحادة.
والطامة الكبرى تكمن في صعوبة او استحالة اية محاولة لإجراء أي تعديل لهذه المادة وذلك لاصطدامها بالدستور نفسه وهو ماتشي به المادة (126): [ أولا لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعينِ أو لخمس (1/5) أعضاء مجلس النواب، اقتراح تعديل الدستور. ثانياـ لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية الواردة في الباب الأول والحقوق والحريات الواردة في الباب الثاني من الدستور، إلا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناء على موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة أيام] والمادة (38) مشمولة بهذا المنع (لايجوز)، ومن ظاهر منطوق المادة (126) يبدو جليا استحالة إجراء أي تعديل على المادة (38) وذلك لصعوبة استحصال (5/1) من أعضاء مجلس النواب في ظل المناخ السياسي المتشنج بسبب المناكفات والانسدادات السياسية المتأتية من المنهج التحاصصي الذي تماسست عليه العملية السياسية الراهنة.
فهذه المادة صارت عائقا حقيقيا أمام جميع المحاولات التي ترمي الى تعديل المادة (38)، وبعدما حصل ما حصل من احداث مؤسفة في البصرة الفيحاء وحدوث خسائر بالأرواح وأضرار غير مُبررة في الممتلكات، وكل ذلك حدث تحت يافطة حرية التعبير وسلمية التظاهر التي كفلها الدستور بموجب هذه المادة، وكان على المحكمة الاتحادية العليا أن تفسِّر هذه المادة تفسيرا قانونيا احترافيا وهذا من صلب اختصاصها الدستوري ولكي تمنع الخلط المتعمد بين الأوراق وترفع اللبس عن تشابك المصطلحات والمفاهيم والمداليل وتعلنها امام الراي العام وتوضح الهوامش المتاحة لحرية التعبير ، وما المقصود به وماهي حدوده ؟وكيف يتم ؟.
ويجب تحديد واجبات السلطة التنفيذية في حال نشوب تظاهرات صاخبة قد تخرج بعض تفاصيلها عن الاهداف التي حُددت لها، وما هي المهام الامنية والقانونية المناطة بهذه السلطة لمنع استخدام القوة المفرطة لتفريق المتظاهرين في حال حدوث اشتباك مؤسف بين الجانبين وهو ماتدفع به بعض الجهات المشبوهة من اجل حرف التظاهرات عن مسارها وافراغها من اهدافها المشروعة ونهجها السلمي الذي كفله الدستور في الفقرة (ثالثا) من المادة (38) .
الأحداث المؤسفة التي نتجت عنها إراقة دماء لأناس عزل طالبوا بحقوقهم المشروعة وسقوط اصابات بين قوى الامن والمتظاهرين، ومسلسل الحرائق والتخريب المتعمد للمؤسسات العامة والخاصة والتي قيل إنها حدثت بفعل مندسين بدون تحديد الجهة التي اقحمت عناصرها لإحداث حالة شغب وتخريب، وبعد أن اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بأخبار ومقاطع فيديو وصور لأحداث مرعبة في شوارع البصرة، ومن دون أن تعطي الجهات الأمنية تفسيرا معقولا لما حدث ليطلع الرأي العام على الحقيقة، والمؤسف له ان يجري كل ذلك تحت هامش حرية التعبير التي كفلها الدستور، فالمطلوب من أرباب القانون الدستوري وضع تفسيرات ملائمة توضح حدود ومعايير حرية التعبير وأثرها السياسي والمجتمعي وحتى الجنائي، او الشروع بتعديل المادة 38 بشكل يلائم الأمن القومي والمجتمعي والسياسي في العراق.
أقرأ ايضاً
- مشروع قانون استبدال العقوبة السالبة للحرية بمبالغ مالية
- حرية الرأي في العراق، بخطى ثابتة.. إلى الوراء دُر!
- طوفان الاقصى والمضائق البحرية