صدر عن وزارة الثقافة والشباب في أربيل كتاب جديد للشاعرة والقاصة الكردية مهاباد قرة داغي يحمل عنوان 'سنة في الجحيم'، وهو من ترجمة الشاعر والباحث الكردي المعروف جلال زنكابادي الذي أضفى على النص المُترجَم طلاوةً لغوية توحي للقارئ وكأنه يقرأ نصاً سردياً مكتوباً باللغة العربية، وليس مُترجَماً إليها.
كما أثرى زنكابادي الكتاب بمقدمة شافية وافية تُحيطنا علماً ببشاعة التعذيب الذي كان يمارسه النظام الفاشي السابق ضد أبناء شعبه من مختلف القوميات والأديان والطوائف، وينكِّل بهم تنكيلاً بشعاً يكشف عن ساديتهم المفرطة وطبيعتهم الدموية المفزعة. أما المقدمة التي دبّجتها أنامل السيدة الفاضلة قره داغي فقد أعانتنا هي الأخرى في تسليط الضوء على النوع الأدبي الذي انضوت تحته مادة الكتاب. فلقد حسمت مهاباد أمرها حينما جنّست الكتاب ودمغته بـ ( المذكّرات).
وكما يعرف المعنيون بالشأن الأدبي هناك تداخل كبير بين السيرة الذاتية، والمذكرات، واليوميات، والشهادات، والرسائل، والمحاورات، وما الى ذلك من أجناس أدبية قارّة لم تتعيّن بعد، ولم تنفكّ عن التوصيفات التجنيسية المُشار اليها سلفا. وبحسب الاشارات الواردة في كلا المقدمتين نفهم أن هذا الكتاب هو الأول من نوعه في أدب المذكّرات النسوية في إقليم كردستان العراق. ويبدو أن هذا النوع الأدبي مقتصر على الرجال من الساسة والمثقفين الكرد، أما النسوة الكرديات فقد أصبحن ضحية دائمة للنظام البطريركي الذي لما يزل مهيمناً على العقلية الكردية حتى ساعة صدور هذا الكتاب الذي امتلك شرف تحطيم هذا الحاجز ( الجنْدري) الذي يميّز بين المرأة والرجل. لذا يتوجب علينا أن نحيّي الكاتبة الجريئة مهاباد قرة داغي على خوضها هذه التجربة الشجاعة والفريدة التي كشفت فيها عن المحجوب، وتحدثت فيها عن المسكوت عنه. أُقرّ أيضاً بأن الكاتبة قرة داغي قد وضعت إصبعها على الجرح، أو قشّرت لحاء الشجرة لكي تلامس النسغ الصاعد، وتتحسس دفقاته الحيوية كقلب نابض لا يكف عن الخفقان حينما اعترفت باقرار واضح لا لبس فيه بأن الحديث عن بعض المشاعر الإنسانية العميقة قد يكون صعباً أو محالاً كالحب والكراهية، والحقد والرضا، والاسترخاء والألم، وشتى الانفعالات الجوّانية التي تنتاب الكائن البشري في أويقات عذاباته المريرة وتجلياته الفنتازية.
عُقدة الاحتباس
رغم أن حادثة السجن وقعت في 27 نيسان ( ابريل 1980) إلا أن مهاباد لم تتمكن من الكتابة عن هذه التجربة المريرة إلا بعد مرور أربع وعشرين سنة بالتمام والكمال. فما إن تعقد العزم على كتابة هذه المذكّرات المؤسية حتى تنتابها القُشعريرة، ويتضاعف وجيب قلبها، وأكثر من ذلك فإنها تشعر بالاحتباس اللغوي الذي يفضي بها الى ما يشبه العماء السديمي فتصاب بالدوار والصداع الشديد الذي تعالجه غالباً بتناول بعض أقراص الباراسيتامول. ثم تحاول أن تنسى تلك اللحظات الجهنمية الرهيبة، ولكن أنَّى لهذه الضحية المُستلبة أن تنسى ساعات التعذيب الطويلة التي كانت تتعرض لها في غرف التعذيب بغية تحطيم إرادتها وإجبارها على الاعتراف بجرائم لم تقترفها!
إن عقدة الاحتباس وعدم القدرة على الكتابة بشكل عفوي كان مرّدها الى المخاض الطويل الذي عاشته الكاتبة طوال ربع قرن من الزمان وهي تتهيأ من جديد لاستعادة التجربة واستنطاقها بشكل عميق يعرّي ذهنية الجلاد ليس في العراق فحسب، وإنما في كل الأنظمة القمعية التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، وتصادر أبسط حقوقهم الإنسانية المُتعارَف عليها.
أفلحت الشاعرة مهاباد قرة داغي بعد هذا الانتظار الطويل من الولوج الى مناخ الكتابة الساخن. والصعوبة، على ما يبدو، كانت تكمن في الاستهلال واجتراح اللحظة الأولى التي أفضت بها الى الوقوف أمام شلال الذكريات المؤلمة التي ستتخلص منها لاحقاً عبر فعل الكتابة الإبداعية التي تضع الأمور في نصابها الصحيح، وتنتصف لكل المقموعين والمُضطهَدين الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل أوطانهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية.
يكشف الفصل الأول الذي عنونته الكاتبة بـ ( الأرق) عن طبيعة ( الكائنة السيرية) التي ستسرد لنا الوقائع عبر ''الصيغة المذكراتية) بوصفها ( الراوية العليمة) بمجمل الأحداث التي تعرضت لها عبر ( سنة في الجحيم) وما لاقته في تلك الأثناء من مصائب وويلات وانكسارات حادة على الصعيدين الذاتي والموضوعي.
قد يستغرب القارئ الكريم حينما يعرف أن الضحية ( المُتهَمة) لم تجتز عامها الرابع عشر. وهي طالبة متفوقة في الصف الرابع الثانوي، تحب القراءة كثيراً، وتكتب الشعر، وقد سبق لها أن نشرت قصيدتين في بعض الصحف الكردية قوبلتا بالاستحسان من قبل الأهل وبعض المعارف. أما التُهم الموجهة إليها فهي ( كتابة قصائد ثورية تمجّد فيها البيشمركة، وتدوين أنشطة 'المخرّبين'، والارتباط بحزب 'كومه لة' المحظور). ولو دققنا النظر في تفاصيل المفكرة أو ( اليوميات) التي عثر عليها نجيب، مفوض أمن كفري، واعتبرها دليلاً دامغاً يُدين مهاباد فإن ما دوّنته لا يتجاوز حدود الاشارة الى الذكرى الأولى لرحيل الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني، وتنفيذ خالد كرمياني وبعض أفراد البيشمركة التابعين لفوج ( 51 كرميان) عملية القبض على ابن القائممقام وآخرين من حزب البعث. وثمة إشارة ثالثة الى أن أختها ليلى قد خيّطت لها ثوبا.
صورة الجلاد
تكشف هذه التُهم الموجهة الى مهاباد ذهنية النظام الذي كان يُحصي على الناس أنفاسهم ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة الى الدرجة التي يعتقد فيها أن ( دفتر اليوميات) الذي نحن بصدده يشكّل خطراً على الأمن الوطني للبلاد. فلا غرابة أن تبدأ رحلة التعذيب المؤسية من دائرة أمن كفري، حيث يقوم المفوض نجيب بضربها على قفا يدها بكيبل مرصّع بالمسامير قبل أن يسفِّرها الى مديرية أمن بعقوبة. وقد وصفت الضحية مهاباد جلادها نجيب بالتوصيفات التالية: ( شخص نحيل، مُصفرّ الوجه، ثقيل الظل، جاهل وسافل). قد لا تكون المواصفات الجسمانية أو الملامح الخارجية للجلاد متطابقة تماماً مع هذه التوصيفات، غير أن عين الضحية المُستلَبة والمقموعة هي التي ترى الجلاد أو الشخصية القامعة بهذه الصورة البشعة. ويمكن للباحثين في ( أدب السجون) أن يدرسوا شخصيات الجلادين في هذا النص، وهي كثيرة، ويمكنهم بالنتيجة أن يتوصلوا الى خلاصات مركزة ومفيدة في هذا المضمار، خصوصاً وأن الضحية قد مرت بشخصيات قامعة عديدة على مدار النص في حركته المتمثلة من دائرة أمن كفري، مروراً بمديرية الأمن العامة في بعقوبة'وبغداد، وانتهاءً بمحكمة الثورة، إضافة الى بعض المحطات الجانبية الأُخَر التي لا تقل أهميةً عن سابقاتها في الاهانة والتنكيل.
طرق التعذيب
يأخذ التعذيب أشكالاً متعددة بدنية ونفسية. ففي غرفة التعذيب الأولى الباردة والموحشة والملوثة جدرانها بالدماء الجافة تعرضت الضحية مهاباد الى الضرب بالكيبل، وحينما لم تعترف بأي شيء طلب المفوض نجيب من ( نجاة)، أحد العناصر الأمنية أن يجلب المقص ويسحب لسانها'لكي يقرض مقدمته. وعلى الرغم من استعمال الجلاد لأسلوب ( الترهيب والترغيب) إلا أن الضحية لم تعترف، الأمر الذي حدا بالمفوض إلى أن يحشرها بسيارة لاندكروز مع مُتهمَين كرديين آخرين قيل لهما أنهما ذاهبان لمواجهة الموت!
تعرّضت الضحية مهاباد الى عدة أصناف من التعذيب يمكن إيجازها بما يلي: ( الصفع، الضرب بالكيبلات على الوجه تحديداً، وعلى مختلف أنحاء الجسد، التعليق بحبال متدلية من خطافات مثبتة في السقف، حرق الصدر والظهر بأعقاب السجائر، الصعق الكهربائي، سحب الدماء، وما الى ذلك من أساليب وحشية مألوفة في السجون البعثية).
عزلة الضحية
يشكل الحبس الانفرادي مكاناً ضاغطاً على السجناء السياسيين تحديداً. فالصبية مهاباد، ذات الأربعة عشر ربيعاً، هي سجينة سياسية على الرغم من صغر سنها. فالبعض لا يجرؤ على القول أنها ( سياسية) لأن هذا التوصيف يحتاج الى حفنة سنوات أخرى كي تكون مؤهلة لهذا اللقب الخطير في بلد تحكمه طغمة شوفينية فاشية. ولو تتبعنا كل الزنازين والسجون الانفرادية والجماعية التي مرّت بها مهاباد لوجدناها مقرفة ومقززة ولا تتوفر فيها أبسط الشروط الصحية، هذا ناهيك عن وسائل الإزعاج التي كانت تتبعها بعض المحاجر والسجون التي تهدف الى تدمير أعصاب السجين، وتحطيم معنوياته، وسحق إرادته. بكلمات مقتضبة يهدف الجلاد دائماً الى تحويل حياة الضحية الى جحيم لا يُطاق!
تحرص مديريات الأمن العامة على أن تضع السجناء السياسيين في زنزانات انفرادية موحشة، غير أن لهذه القاعدة بعض الاستثناءات. فذات مرة حشروا مع مهاباد صبية شيعية اسمها جنان، عمرها ست عشرة سنة، وهي مُتهمة بتوزيع منشورات تابعة لحزب الدعوة الإسلامية. وعلى الرغم من أن وجود هذه الضحية الجديدة سيخترق عزلة مهاباد، وسيبدد وحشتها، غير أنها كانت تخشى في قرارة نفسها من أن تكون هذه السجينة الجديدة وكيلة أمن مدسوسة دفعوها لاستدراج مهاباد أو التجسس عليها.
حينما يئِسَ المحققون الأمنيون منها بعد شهرين كاملين من التحقيقات المتواصلة التي تخللها التعذيب الوحشي المُخالف لكل الأعراف والقوانين الأرضية والسماوية، قرروا نقلها الى مديرية شرطة بعقوبة، لكنها ظلت وديعة تابعة لمديرية أمن بعقوبة. إن هذا التسفير الى مديرية الشرطة يشكل انعطافة مهمة في حياة مهاباد، فمن الممكن أن تنتقل من سجن انفرادي الى سجن ثنائي في الأقل، خصوصاً أن عدد السجناء السياسيين كان يتزايد بشكل مطرد. وبالفعل فقد زجوا معها ( أمل) وهي امرأة شيعية مع ابنتها الصغيرة ( أنفال). وقد حاولت هذه السيدة أن تخطب مهاباد لشقيق زوجها مهدي، وهو طالب في كلية طب الأسنان وشخص مؤمن ومتعبد، غير أن مهاباد رفضت هذا العرض، مثلما رفضت عرض سجين آخر كان قابعاً في الزنزانة المواجهة لزنزانتها. ورفضها، بطبيعة الحال، لا يعود الى سبب عنصري، فهي من جهة مرتبطة بقصة حب مع شاعر كردي شاب يُدعى مصطفى، إضافة الى عدم إيمانها بالعلاقة العابرة الناجمة عن إعجاب خاطف لا غير، هذا فضلاً عن المجهول الذي يهيمن على حياتها المستقبلية، فهي لا تعرف على وجه اليقين إن كانت ستبقى على قيد الحياة أم ستواجه الإعدام أو السجن لمدة زمنية طويلة.
بارقة أمل
إن أبرز التغييرات التي طرأت على حياة مهاباد هو السماح بزيارتها من قبل الأهل والأقارب وبعض الاصدقاء المقربين، الأمر الذي فتح لها أكثر نافذة أمل. وصار بإمكانها أن تستحم وأن تطلب بعض الأكلات من خارج السجن، وأن تكتب بعض القصائد وتهربها مع الملابس المتسخة التي كان أهلها يأخذونها معهم أسبوعياً، بل صار عندها مروحة هوائية تجفف العرق الذي كان يتصبب منها في الاشهر الصيفية الحارة، ومذياع تعرف بواسطته أخبار العالم، وما يدور تحديداً في إقليم كردستان.
وعلى الرغم من طول المدة الزمنية التي أمضتها في سجن مديرية الشرطة إلا أن الأشهر الأخيرة من حبسها كانت مناسبة للكشف عن عدد آخر من الجرائم التي ارتكبها النظام السابق بحق المواطنين العراقيين أمثال الكرد الفيليين الذين رُحِّلوا قسراً الى إيران بعد حادثة التفجير المفبركة في المستنصرية التي اتُّـهِمَ فيها الطالب الفيلي ( سمير مير غلام) وفي حينه أقسم الدكتاتور بأن ( دماء الشهداء والجرحى لن تضيع هدراً) الأمر الذي أفضى الى تسفير مئات الآلاف من الكرد الفيليين العراقيين الى إيران.
استرجاعات ذهنية
لقد أفادت مهاباد بواسطة بعض الاسترجاعات الذهنية من تأثيث هذا النص بالعديد من المواقف والذكريات التي تتعلق بالحركة الكردية أولاً، أو ببعض الشخصيات الرئيسية التي تمتد من الأسرة الى الأعمام والأجداد لنكتشف ببساطة أن عائلتها تنحدر من منطقة كردستان التركية. وبواسطة هذه الصورة البانورامية التي رسمتها مهاباد نعرف أن عمها إسماعيل قد عُذِّب عام 1963، وهو العام الذي اختطف فيه البعث السلطة لتسعة أشهر وارتكب فيها العديد من الحماقات التي لا تغتفر. كما نتعرف على عدد غير قليل من الثوار الأكراد الذين كانت مهاباد تمحضهم حباً جماً، فلا غرابة أن تضحي من أجلهم جميعاً، ومن أجل كردستان حرّة محررة.
قبل أن تمثل مهاباد أمام ما كان يسمى بـ ( محكمة الثورة) آنذاك مرت بمكانين تجب الاشارة اليهما: الأول بيت منعزل يضم عدداً من النساء الشيعيات والشيوعيات اللواتي تعرضن للتعذيب والاغتصاب. فالمعروف أن المرأة التي يصدر بحقها قرار الاعدام كانت تغتصب لمرات عديدة لأنَّ الجلادين يعتقدون أن سرّها سوف يُدفن معها حالما تموت. أما المكان الآخر فهو مديرية شرطة الزعفرانية التي كانت تضم في قاووش النساء نحو ( 300) امرأة. وقد استمعت مهاباد الى قصص عديدة يشيب لها الولدان. كما التقت في هذا السجن بافتخار السجينة السياسية الشيوعية التي عذبوها واغتصوبها بشكل وحشي فيما تنتظر هي تنفيذ حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة التعسفية للنظام السابق.
تحت المراقبة
إن مثول الضحية مهاباد أمام محكمة الثورة يضعنا أمام تساؤلات خطيرة لعل أبرزها الاستهانة بإنسانية الانسان، ومحاولة مسخه وتحطيمه. فعلى الرغم من مطالبة المدعي العام بإنزال أقصى العقوبات بها، إلا أن القاضي لم يجد نفسه أمام معطيات'جريمة واضحة المعالم لذلك أصدر حكماً نعتبره، نحن العراقيين، مُخففاً، وهو الحبس لمدة سنة واحدة، ودفع غرامة مالية قدرها ثلاثون ديناراً، ووضعها تحت المراقبة لمدة ثلاث سنوات على أن تُحتسب لها مدة المحكومية التي أمضتها في السجون والزنازين آنفة الذكر.
لقد نفذت مهاباد بجلدها من أنياب الوحش الكاسر على الرغم من الخسائر الفادحة والعذابات الكثيرة العصية على الكتابة والتوصيف. وقررت أن تواصل مشروعها الحياتي والسياسي في آنٍ معاً على الرغم من وضعها تحت المراقبة. فارتكاب أي خطأ مهما كان طفيفاً قد يعيدها الى أروقة ودهاليز الأمن العامة، لذلك يتوجب عليها الحذر في التعاطي مع أعضاء حزب كادحي كردستان وأفراد البيشمركة الذين يحتلون مساحة كبيرة من عقلها وقلبها في آنٍ معاً.
يبدو أن مصطفى، الشاعر الذي أحبته وأخلصت له كان يفكر بالخلاص الفردي، أو أن الخوف تسرّب اليه، لذلك قرر السفر الى خارج العراق بعد أن قام بزيارة خاطفة لمهاباد حيث قدّم لها هدية تذكارية وهي تمثال صغير لنفرتيتي مربوطاً بسلسلة، وطلب منها أن ينهي علاقته العاطفية بها متذرعاً بالمصير المجهول الذي ينتظرهما. ولم يعد الى كردستان العراق إلا في عام 1992، أي بعد الانتفاضة الشعبانية العارمة التي تفجرت في معظم المدن العراقية في الشمال والجنوب. مع ذلك فقد تجدد اللقاء العاطفي ثانية، وتزوجا، وسافرا الى السويد حيث أعادت مهاباد ترتيب حياتها من جديد مستثمرة وقتها الثمين هناك حيث تعلمت اللغة السويدية وأتقنتها. كما واصلت مشروعها الثقافي المتنوع من دون أن تنسى قضيتها الأساسية وهي الدفاع عن المرأة الكردية مهضومة الحقوق خاصة، وعن قضية الشعب الكردي عامة. وحينما سقط النظام الشمولي السابق بعد انتظار طويل قررت العودة الى كردستان متأبطة ( لائحة مطاليب المرأة الكردية)، كما قبلت العمل، بعد تأنٍ طويل، كمستشارة لرئيس حكومة الإقليم لشؤون المرأة ومساواتها لتحقق شيئاً فشيئاً بعض طموحاتها السياسية والثقافية والفكرية.
خلاصة البحث
من خلال القراءة المتأنية لكتاب 'سنة في الجحيم' للكاتبة مهاباد قرة داغي توصل البحث لجملة من الاستنتاجات المهمة من بينها أن صورة الجلاد القامع في عين الضحية المقموعة هي صورة مشوّّهة، قميئة ومقززة. فالجلاد لا يكتفي بتنفيذ العقوبات التي يراها مناسبة وضرورية بغية انتزاع الاعترافات للوصول الى الحقيقة، وإنما يتفنن بها، ويمعن في الذهاب الى أقصى الحدود الممكنة التي تحقق له متعة اللذة السادية التي تهيمن على المرضى والمنحرفين ذهنياً وروحياً. فكل الشخصيات التي وردت في متن الكتاب من محققين وجلادين وعناصر أمنية كانت شخصيات مخيفة، وقبيحة، بحسب توصيف الكاتبة، ومفزعة الى الدرجة التي تبعث على الهلع، كما هو حال الجلاد الملثم، ضخم الجثة الذي خلع كتفها،'وأطفأ عشرات السجائر في صدرها وظهرها، وكسّر لها بعض أسنانها. هذه الصورة المشوّهة التي يفترض أن تكون مقتصرة على المحققين الأمنيين نراها في هذا الكتاب قد انتقلت الى عناصر الشرطة المحلية كما هو الحال في مفوض الشرطة الذي صفعها صفعة قوية جداً ثم برّر هذه الصفعة على أنها ( هواية محببة للتلذذ ليس إلا) لأنه ليس من حقه أن يضرب أحداً. ويبدو أن هذه اللذة السادية قد انتقلت الى القضاء'العراقي. فالمدعي العام كان يصرخ بأعلى صوته مطالباً رئيس المحكمة بإنزال أقسى العقوبات بهذه الصبية اليافعة التي لم تجتز عامها الخامس عشر بسبب ممارستها ( لحق الرأي والتعبير) وهو حق شرعي ضمنته العهود والمواثيق الدولية في كل مكان من هذا العالم.
يكشف الكتاب عن طبيعة العقوبات الجماعية المرعبة التي طالت جزءاً كبيراً من أبناء الشعب العراقي مثل ترحيل الكرد الفيليين العراقيين الى إيران تحت تُهم وذرائع واهية. وحتى لو كانت حادثة ( سمير مير غلام) صحيحة ولا يرقى إليها الشك، فإنها لا تبرر مطلقاً حق النظام الشوفيني السابق بترحيل الكرد الفيليين العراقيين كلهم الى إيران. فالقانون يجب أن يحاسب المجرمين فقط، لا أن يمتد هذا التجريم ليشمل فئة من الشعب أو طائفة كاملة بعينها. يسلط الكتاب عبر تقنية الاسترجاعات الذهنية الضوء على جرائم الأنفلة التي ارتـُكِبت بحق الشعب الكردي حيث غيّب النظام الشمولي نحو ( 182) ألفاً من المواطنين الكرد الذين لم تُعرف مصائرهم حتى الآن. كما تم قصف حلبجة وبعض القصبات والقرى الكردية في عموم كردستان العراق بالأسلحة الكيماوية التي راح ضحيتها بضعة آلاف من المواطنين الأبرياء.
الأمكنة في هذا الكتاب هي أمكنة موحشة ومخيفة تبعث على القرف والغثيان. وتكون غالباً ضيقة، رطبة، قليلة الإضاءة وخصوصاً الزنازين الانفرادية. أما إذا كانت واسعة فإنها تضم عدداً كبيراً من السجناء بحيث يتعذر على القادمين الجدد أن يجدوا مساحة خالية ينامون على أرضيتها الكونكريتية الصلدة. وعلى الرغم من ضيق السجون والمعتقلات العراقية إلا أن مخيلة السجين تنشط غالباً وتحلّق في فضاءات حلمية تعوّضه بعض الشيء عن ضيق المكان وضغوطاته النفسية الشديدة.
وفي الختام لا بد من الإشادة بترجمة الشاعر المبدع جلال زنكابادي الذي منح النص أبعاداً جمالية مضافة كدقة العبارة، وحلاوة الجملة العربية وانسيابها. وهذا هو دأبه في بقية تراجمه سواء للقصائد والقصص والأبحاث التي يترجمها الى العربية أو الى سواها من اللغات الأخرى التي يتقنها. فتحية للأنامل التي دبجت هذا الكتاب، وتحية أخرى لمن ترجمه من اللغة الكردية الى العربية.
أقرأ ايضاً
- الحوانيت المدرسية أحد أهدافها.. حملة جديدة للصحة المدرسية
- كربلاء تعمل على تخصيص مواقع جديدة لمعامل الاسفلت
- زراعة كربلاء تواصل عمليات التحري عن سوسة النخيل الحمراء