حجم النص
بقلم مهدي نعمة الجنابي تولد المخلوقات الحيوانية وهي مزودة بقدر من السلوك الموروث و شيء من القدرة على تعلم السلوك، وكلما ارتفعنا في سلم التطور لا حظنا نقصاً في السلوك الموروث و زيادة في القدرة على التعلم حتى نصل الإنسان الذي يتمتع بقدرة على التعلم كبيرة جداً. من الملاحظ إن الحيوانات الدنيا تكاد تعيش بشكل كامل على السلوك الموروث، وان معظم سلوكها غريزي غير متعلم و قدرتها على التعلم ضعيفة وهي إن تعلمت فإنما تتعلم بمقدار محدود، أما الحيوانات الثدية مثلاً لها القدرة على التعلم بشكل اكبر، وإن تفاوتت هي نفسها على قدرة التعلم بين نوع وآخر. أما الإنسان فان سلوكه الموروث يكاد ينحصر في الأفعال الحيوية مثل الهضم و التنفس و التمثيل و غيرها من الأفعال الضرورية لحفظ البقاء بمعناه البسيط. أما أفعاله الأخرى فانه يتعلمها من البيئة والمحيط، فيلتقط المعلومات من البيت و المدرسة و الشارع و غيرها من الأماكن التي يحتك بها بشكل مباشر أو غير مباشر. و القدرة على التعلم رديف للذكاء، بل إن الذكاء يُعرّف بأنه القدرة على التعلّم. ومعنى ذلك إن الإنسان الأذكى هو الإنسان الأقدر على التعلّم وإن جوهر الذكاء هو هذه السمة ذات الفاعلية و التأثير في مستقبل الجنس البشري على الأرض. والإنسان يتعلّم معظم أفعاله و يُحوّل قسماً كبيراً مما يتعلّمه إلى عادات سلوكية، حيث يقول عالم النفس الشهير (وليم جيمس) إن العادة هي كبرى قوانين السلوك البشري. ولو انك نظرت في سلوكك اليومي عزيزي القارئ، منذ أن تفتح عينيك صباحاً حتى تغمضهما ليلاً لوجدت إن 90 % من سلوكك عادات، ذلك أن للفرد مجموعة من العادات في المأكل و المشرب و الملبس و العمل بل وحتى في طريقة التفكير و غيرها من الأمور. و العادة كما هو معلوم أمر نتعلّمه ونثابر عليه حتى نعتاده. ثم إن معارفنا و مهاراتنا و مواقفنا و مفاهيمنا كلها مكتسبة و متعلّمة في أثناء حياتنا. ومن هنا كان طول الطفولة البشرية نسبياً. فالحيوانات قادرة على مواجهة الحياة و مطالبها منذ الساعات الأولى لولادتها كونها تولد وهي مزودة بالآليات الغريزية المساعدة على البقاء. على عكس الإنسان الذي يحتاج للرعاية و العناية و الاهتمام من الأسرة و لزمن ليس بالقصير، فبقاء الطفل البشري رهينة بما تقدمه الأسرة له من عون و توفير أسباب البقاء. ومن الملاحظ أن طفولة الإنسان تتزايد طردياً مع تقدم البشرية و رقيها، فطفولة البدوي مثلاً لا تتجاوز بضع سنين ثم يدفع بعدها للحياة وهو قادر على صعابها و مناخها المتقلّب، و أما طفولة ابن الريف فهي لا تزيد كثيراً عن طفولة البدوي، فيخرج بعدها ليقدم العطاء و العون في مجالات الزراعة ضمن محيطة، أما ابن المدينة و خصوصاً المتعلّم فان طفولته قد تمتد عشرات السنين يتهيأ خلالها لمستقبل الأيام و يستعد خلالها للنضوج العقلي و الجسماني الذي يجعله قادراً على المشاركة و العطاء للأسرة و المجتمع. وهنا إذا ما ألتفتنا الآن للتراث وجدناه مجموعة هذه المعارف و تلك المهارات و المفاهيم و التقاليد و العادات و المواقف والتصورات و الرؤى التي تجمعت لدى أمة من الأمم عبر حياتها ومن خلال ممارستها للتواصل مع محيطها و التفاعل مع بيئتها في مختلف مناحي الحياة ضمن شتى ميادين المعرفة. ويحرص المجتمع عادة على أن ينقل لأجياله اللاحقة تراثه من المعرفة وأساليب الحياة الخاصة به و العادات و التقاليد و المواقف و المفاهيم... من أجل تحقيق هدفين حسب ما يرى: 1 / إعانة أجياله الجديدة على مواجهة الحياة وحفظ بقاء تلك الأجيال على الوجه الذي يعتبره أحسن الأنماط!!. 2 / إنه يعمل على حفظ بقائه والتمسك بما يعتقد صحيحاً!! من مفاهيم وتقاليد وأساليب حياة. وبما أن الزمان يتغير و الحياة تتقدم و المعارف ترتقي يوماً بعد يوم و الأجيال الجديدة تتبلور لديها مفاهيم خاصة بها و مواقف ذاتية تبنيها هي نتيجة هذا الاضطراد المتسارع في مجالات الحياة التكنولوجية من وسائل اتصال وتقنيات العمل الالكتروني وغيرها. فأنها تقبل بعض هذا التراث وترفض بعضه. وهنا يأتي دور التربية الذكية الواعية المدروسة التي تعين الأجيال الجديدة على حسن الالتقاط مِن بين الكم الهائل مما خلّفه لنا الماضون مِن تراث جمعي و الحرص على ما هو صالح منه ورفض ما يُعرقل سبل تقدم المجتمع وأفراده. وبطبيعة الحال فأن دور البيت والمدرسة و التنظير الايجابي،عوامل تقود وتوجه النشاء الجديد نحو العمل على تنقية الماضي من التراث و جعل الفرد ضمن المجتمع يمتلك الجرأة في التخلّص مِن عوامل التثبيط و الرجعية كي لا يحصل الشد للوراء من دون الالتفات لما يدور حولنا مِن تغيير فكري تكنولوجي. ويبقى أن نشير إلى إن تراثنا العربي غني وثري وأن فيه الكثير مما يستحق الاحترام، لذلك علينا يقع التعريف به و الحرص عليه وتقديمه للآخر بالشكل الإيجابي مبتعدين عَن السلبية المُعتمدة على التعجرف والاستعلاء.. فكما أنت عزيزي العربي لديك تأريخ فتذكّر دائماً بأن للآخرين تأريخهم أيضاً.. ولا عبرة مِن التراث إذا لم يدفعك لتقديم ما هو أكثر كمالاً كلّما تقدم بك الزمن مِن خلال إيمان التراث بالمستقبل لا بالماضي.. ومَن يَضنُ بأنه يمتلك الأدوات الناجعة في المزج بين حاضره وماضيه أراه موغل في أحلام اليقظة كَثيراً.. فالزمن قد تَغيّر كثيراً فَمن يُدرك ذلك.. لستُ أدري.
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- وللبزاز مغزله في نسج حرير القوافي البارقات
- وقفه مع التعداد السكاني