حجم النص
بقلم:مهدي نعمه الجنابي إن دراسة تاريخ الأشوريين تعني فيما تعني التمعن في إطار زمني يمتد قرابة ألف وخمسمائة سنة (منذ الألف الثاني ق.م وإلى سقوط نينوى عام 612 ق.م) تسلم عرش آشور خلالها 117 ملكاً. حيث استطاع الأشوريون خلال هذا الزمن من فرض سيادتهم بالقوة على كل الشعوب التي وقعت تحت سيطرتهم، لأنهم كانوا أصحاب أول نمط مِن أنماط السيادة و الجبروت الذي تميّز بالاتساع والعظمة، وإن تاريخ القوى العظمى يبدأ لدى قُدماء المؤرخين بالإمبراطورية الأشورية. اتصفت الحضارة الأشورية بصفات متميزة وساحرة عَن غيرها مِن الحضارات، حيث شجع حُكامها رجال الثقافة على العمل، وكان لدورهم البارز في زيادة تفاعل العناصر الثقافية حين تبنوا ثقافة الحضارات السابقة عليهم في بلاد ما بين النهرين وكذلك دورهم في نقل هذا التراث الناضج إلى بلاد أخرى عن طريق مستعمراتهم المنبثة في الآفاق، واستطاعوا أن يُقدموا للتاريخ عطاء حضاري مؤثر مِن خلال ما تركوه ورائهم مِن آثار متنوعة تُشير بدلالات عدة على ازدهار حضارتهم واتساع نفوذهم وامتداد سيطرتهم، كما ظهرت في آشور بوادر التطور في الفن الذي كان متناظراً تماماً مع التطور السياسي و الإداري وظهرت علاماته المؤثرة في البقايا الفنية الآشورية ضمن النحت المتميز للألواح الجدران والمسلات الحجرية عبر مشاهد الحرب والصيد وتماثيل الثيران المُجنّحة. تُرينا مداخل المباني الأشورية ضمن بقايا العواصم الأشورية قطعاً نحتية كبيرة قوامها مخلوقات مُركبه عُرفت باسم (لاماسو) عند الآشوريين، وتركيب هذه القطع الحارسة مكوّن مِن قوى بشرية وحيوانية، حيث نجح النحات الآشوري في دمجها بشكل مُنسّق، وقد عُرفت هذه الأشكال باسم الثيران المُجنّحة ذات الرؤوس البشرية. وهي عبارة عن حيوانات منحوتة على قطعة واحدة مِن الحجر وضعت في صفة أزواج عند مداخل المعابد والقصور وبوابات المدن الأشورية كحراس للمداخل. وكان لهذه المخلوقات المُركّبة ـ حسب اعتقاد العراقيين القدماء ـ قابلية لطرد الأرواح الشريرة التي قد تدخل المبنى مِن خلال مداخلة. حيث جمعت هذه المنحوتات (المخلوقات) في تركيبها كل القوى ذات السيادة والسطوة التي سيطرت على السماء والأرض والهواء والمياه، إذ امتزج العالم الإلهي بالعالم البشري وساعدت السلطة الإلهية هذه في طرد الأرواح الشريرة بقيادة العقل والحكمة البشرية مُضافاً لها قوة الطبيعة. إن أول اكتشاف لثور مُجنّح كان مِن قِبل ألآثاري الانكليزي (هنري لايارد) وذلك قَبل أكثر من قرن ونصف القرن، عندما اكتشف الثيران المجنحة في القصر الشمالي الغربي ـ قصر آشور ناصر بال الثاني ـ من العاصمة الآشورية كلخو (نمرود)، وكذلك الثيران المجنحة التي عثر عليها عند مدخل بوابة نركال في نينوى. وتوالت الاكتشافات الأثرية لهذا النحت الفريد في شكله وتركيبة ليزيد عدد المكتشف منها عَن 100 ثور مُجنّح كان آخرها اكتشاف لهذا الثور في قصر الملك اسرحدون ضمن تل النبي يونس بنينوى عام 1986. هذا وأن جميع الثيران المُكتشفة كانت تحمل على سطوحها الجانبية كتابات بالخط المسماري وباللهجة الآشورية التي هي جزء من اللغة الأكادية، حيث تتضمّن هذه المُدونات حديث حول الملك والمكان وأمور أخرى ذات أهمية وقيمة كبيرة بالنسبة لهم. فالقسم الرئيسي من هذه النصوص يضم تفاخر الملك بحملاته العسكرية ونشاطاته العمرانية وهي أي الكتابات الملكية تبدو للدعاية من أجل توضيح معنى القوة لكي يسمعها الناس بصيغتها الأدبية وغير الأدبية. لقد عمد الأشوريون إلى نحت الثيران المجنحة في المكان القريب من مصادر الحجر المستخدم لهذا الغرض، ثم بعد ذلك تُنقل إلى المكان المُعد لها، وقد نُحِتت تماثيل الثور المجنح مِن قطعة واحدة إذ تم عملها في المحجر ثم نُقلت إلى مكانها بالنهر غالباً وتوضع في موضعها لإجراء عمل اللمسات الأخيرة.. كما توضّح ذلك منحوتة مِن قصر سنحاريب في نينوى التي تُصوّر عملية النقل (بالكلك) لتمثال مجنح مِن محجر في بلد مليء بالغابات وقد نُحت بشكل أولي بعدها تم استكماله في محلّه الأخير ضمن أحد المداخل لقصر أو معبد (سيتون لويد ـ آثار بلاد الرافدين ـ ترجمة سامي سعيد الأحمد ـ بغداد 1980). لقد زودتنا النصوص المسمارية والشواهد الأثرية والفنون النحتية معلومات وافية عَن هذه المخلوقات المُركبة ذات القوى الخارقة للطبيعة والتي كان لها دور رمزي وسحري مهم في العقائد الدينية لحضارة بلاد الرافدين والتي تجسدت في شكل الثور المجنح ذو الرأس البشري. إن هذه المخلوقات ذات المضمون الروحي والخصوصية المعمارية والفنية والوظيفية التي وضعت للحماية والمنعة هي تُمثّل الملائكة الحارسة التي يستخدمها الملوك والكهنة للتحليق والصعود (الرمزي) إلى مقرات الآلهة و إلى رئيس الآلهة في السماء، قد انتقل تأثيرها إلى حضارات آخري بصورة الحصان المجنح، وقد تكون هذه الحيوانات مصدر رؤيا حزقيال لمخلوقات مركبة لها أربعة مظاهر (لإنسان وأسد ونسر وثور.. يمضي كل واحد منه قدماً)، وقد تنتظم الصورة إذا ما وضعنا في الحسبان إن حزقيال قد رأى القصور الأشورية التي كانت شاخصة آنذاك (الكتاب المُقدّس 1: 6 ـ 9). وبهذا يكون الآشوريون هم أصحاب الفكرة الشجاعة التي مزجت المخلوقات الأربعة في مخلوق واحد هو الثور المجنح ذو الرأس البشري الذي يحرس قصورهم العظيمة (اندريه بارو ـ بلاد آشور ـ ترجمة عيسى سليمان و سليم طه ـ بغداد 1980).
أقرأ ايضاً
- الحجُّ الأصغرُ .. والزِّيارةُ الكُبرىٰ لِقاصِديِّ المولىٰ الحُسّين "ع"
- جريمة عقوق الوالدين "قول كريم بسيف التجريم"
- سموم "البعث" وبقايا شخوصه