دائماً كان هناك من يريد أن يفرّقنا، ودائماً كنا نفترق ليس لأن الآخر يريد منّا ولنا ذلك، بل لقابلية فينا تكتمل بإرادة الآخر. هذا لا يعني أننا ندعو الى التنصّل أو إدانة ما ينتج أو نتج من حراكنا العلمي من فرق أو مذاهب كان ينبغي أن يحكمها هاجس التكامل لا التقابل، لأن هذا الحراك هو ميزتنا وأحد أهم خصائصنا التي توسّع فضاء المعرفة التعدّدية المحفوظ بالتوحيد والوحدة.
قد تساهم الذاكرة الحوارية على أساس الاختلاف، أي ذاكرة السعي الدائب الى تغليب الوحدة وتصليب في وجه مؤثّرات الخارج السالبة، في إعادة بناء إرادتنا الوحدوية على هذا المفصل الشائك الذي بلغ ذروة تعقيداته ومخاطره في العراق فضلاً عن فلسطين. ففي العراق ارتفعت وتيرة الكلام عن السنّة والشيعة، ولا يجوز الاهمال او التغاضي عن المخاطر المحتملة، فإرادة الآخرين جادّة في الاستحواذ الكامل علينا من خلال خلخلة بنياننا من الخارج والداخل، والداخل أولاً. كما لا يجوز أن نتجاهل في كل طرفين متصارعين على ساحتنا، أي طرفين، عدداً من الألغام، أي من الأغبياء أو المتوتّرين أو أهل السوء، نيّة وفعلاً، ومن شأن هؤلاء، إذا لم نتّخذ احتياطاتنا اللازمة للوقاية من شرّهم، أن يندفعوا ليثيروا الغرائز ويوسّعوا نطاق عملهم بالتدريج، من خلال مزيد من التعصّب الذي تغذّيه الأفعال الرديئة والجرائم المتبادلة والدوّارة بين جماعة وجماعة ومدينة ومدينة.
ولو كان الصراع السنّي - الشيعي على سبيل المثال، يمكن أن يأتي بفوائد لأحد الطرفين، لكان بإمكاننا أن ندرك، مع رفض مبدئي من قبلنا لأصل المسألة، أن الأشرار إنما يسعون الى تحقيق مصالح فئوية ضيّقة وغير مشروعة. أنا أشكّ في ذلك، وأقدّر من خلال قراءتي للتاريخ وللمشهد أن أي صراع شيعي - سنّي سوف يصبّ صراعاً شيعيّا ً- شيعيّاً وسنّياً - سنّياً، والعناوين الجامعة في لحظة استثنائية لا تصلح للجمع دائماً. وإذا ما افترضنا أن هناك أشراراً في الطرفين، فإننا لا يمكن أن نتناسى أن العقلاء موجودون دائماً، وهم إن أخطأوا في لحظة واستجابوا مرغمين لنداء الغرائز، أو غلبوا على أمرهم، فإنهم سرعان ما يعودون الى عقلهم ودينهم وشرعهم. هذا أمر حسن، لكن الأحسن منه والأجدى الآن، هو أن نستبق الأمور، أن يبادر مفكّرو الإسلام وعلماؤه المعنيّون حقّاً بالتوحيد والوحدة، الى اللقاء حول توجّه وقائي نابع من رؤية للمخاطر الكبيرة التي تحدق بنا جميعاً. أن يبادروا ليقولوا كلاماً علمياً دينياً وثقافياً وحضارياً مسؤولاً، وليقولوا لأهل التطرّف إن الساحة ليست خالية لهم، وليذهبوا الى العراق ليروا الجميع، وليستمعوا الى الجميع ويقدّموا رجاءهم للجميع، من مسافة موضوعية عن العراق لا تمنعهم أن تكون قلوبهم وعواطفهم متأجّجة خوفاً على العراق، وحبّاً بالعراق والعراقيين. والمسافة الموضوعية تساعد على أن يروا المسائل بنسبة من البرودة تمكّنهم من الموضوعية.
لنذهب الى العراق سنّة وشيعة، فالعراق أهم بكثير من تماثيل بوذا في أفغانستان، وقد كان ذهاب وفد العلماء الى أفغانستان من أجل التماثيل فعلاً حضارياً عالياً. أما الذهاب الى العراق، فهو أعلى عند الله وعند رسوله وأهل بيته والصالحين من عباده، لأنه يمنع سقوط المثال والأمثولة لا التمثال فقط. لا بد من ورشة إسلامية تستنهض ذاكرة الوحدة وتستشرف مخاطر الفرقة والصراع وإلا فلا عذر لمعتذر.
الاسبوعية
أقرأ ايضاً
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً
- فازت إسرائيل بقتل حسن نصر الله وأنتصرت الطائفية عند العرب
- مكانة المرأة في التشريع الإسلامي (إرث المرأة أنموذجاً)