بعد سقوط النظام السابق عام 2003 شهد العراق انفتاحا غير مسبوق على فضاء الاعلام المحلي والعالمي، واصبح عدد وسائل الاعلام يفوق مئات المرات ما كان عليه، فقد كان عدد الصحف اليومية لايتجاوز الخمس صحف بالاضافة الى ثلاثة قنوات تلفزيونية ارضية واذاعتين ومجلة اسبوعية واخرى شهرية، وجميع هذه الوسائل كانت مملوكة للحكومة وتدور في فلك الترويج لأيديولوجية الحزب الحاكم وقيادته انذاك، دون السماح نهائيا بنشر اية افكار منتقِدة او مناهِضة.. بل ان كتابة جملة انتقاد واحدة كانت قد تكلّف الصحفي في ذلك الوقت حياته وتهدد حتى مستقبل عائلته.
وعلى الرغم من الخطاب الداعم لحرية الصحافة الذي أعقب التغيير في العراق، وانفتاح الدولة على خصخصة الفضاء العام للإعلام، إلا أن إهماله وعدم الانتباه لدوره الفعال ظلّ السمة الاساسية في ظل التدهور الأمني وتركيز الجهد الحكومي على ملفي الأمن والسياسة فقط.
فبعدما اصبحت اعداد المطبوعات تتجاوز الـ 150 صحيفة ومجلة يومية واسبوعية وشهرية، وبلغ عدد محطات البث الاذاعي والتلفزيوني مئات المحطات اغلبها في بغداد واقليم كردستان، فإننا لانرى سوى جو من الغزارة الإعلامية التي لا تتمتع بحقوق الاحترام والتشجيع على ارض الواقع المأساوي في البلد ولا تجد لها اية اذان صاغية من قِبل معظم المسؤولين..
ففي ما يتعلق بالصحفيين العراقيين والاعتداءات التي طالتهم فان التقارير التي اصدرتها مؤسسات حماية الصحفيين تقدِّر عدد ضحايا العنف من الصحفيين منذ سقوط النظام السابق باكثر من 271 صحفيا وإعلاميا، اضافة الى 15 صحفيا وإعلاميا مازال مصيرهم مجهولا، وذكرت هذه التقارير ان اكثر من 65 صحفيا تلقوا تهديدات بالقتل فيما غادر المئات منهم العراق خوفا على حياتهم.
وبحسب التقرير الذي أصدرته لجنة حماية الصحفيين العالمية التي تتخذ من نيويورك مقرا لها، فإن العام الماضي شهد مقتل أكثر من 31 صحفيا في انحاء متفرقة من العراق، وهو ما يعادل نصف عدد الصحفيين الذين قتلوا في جميع انحاء العالم هذا العام، ليصبح العراق وللعام الخامس على التوالي، اكثر المناطق خطورة على الصحفيين في العالم.
ان قانون حماية الصحفيين الذي تمت احالته الى مجلس النواب لمناقشته وإقراره، إحتوى على العديد من الضوابط الهامة المتعلقة بحماية الصحفي، كالفقرة التي تُلزم منع اعتقال الصحفي او احتجازه إلا بأمر قضائي وكذا عدم مصادرة ادواته او عرقلة وصوله الى المادة التي يرغب بتغطيتها، بالاضافة الى حقه في الاحتفاظ بسرّية العمل الذي يقوم به ما دام عمله لا يتعارض مع القانون.
وهناك ايضا فقرة اخرى هامة تدعوا الى شمول عوائل الشهداء من الصحفيين بقانون الشهداء، وكذا بالنسبة لتقديم التسهيلات لذويهم في ولوج مناحي الحياة التعليمية والعملية.
لكن هناك فقرات ضبابية او مزدوجة المعنى يمكن تفسيرها بعدة أوجه كفقرة، اعطاء الحرية في تناول الموضوعات المختلفة ونشرها ما دام ذلك لا يتعارض مع \"المصلحة الوطنية\"، فهنا يجب ان يكون القضاء وحده هو الفيصل في تحديد ماهية المصلحة الوطنية ومدى الخرق الحاصل فيها من قِبل الصحفي.
ان الوقت الحالي يشهد مخاض ولادة جديدة للعراق وتتحدد فيه أطر السياسة الداخلية العامة التي ستبقى لأمد طويل قبل ان تتغير او يُبنى عليها، لذا فان جميع مفاصل الصحافة والاعلام مدعوة اكثر من اي وقت مضى لتكثيف الجهود من اجل توضيح موقع الصحفي ومكانته في صورة العراق الجديد، وكذلك السعي الحثيث لاستحصال الحقوق الشخصية والمهنية والاقتصادية للصحفي والاعلامي..
صحفيو كردستان، رغم انهم يعملون في جو آمن الى حد كبير ويتسلمون منحة شهرية من حكومتهم تحقق لهم بعض التأمين الاقتصادي، إلا ان هناك مؤشرات سلبية فيما يتعلق بالحقوق الصحفية لديهم، فمثلا تشترط حكومة كردستان الحصول على تراخيص مسبقة عند انشاء وسيلة اعلامية او مؤسسة صحفية، بمعنى انه من الممكن ان يأتي الرد على طلب انشاء الوسيلة الاعلامية بالرفض.
الحكومة المركزية قامت مؤخرا وفي سبيل الدعم الاقتصادي، بإصدار قانون تقديم مِنَح مالية شهرية للفنانين والادباء والصحفيين، وقد احالت هذا القرار الى وزارة الثقافة التي بدورها وجهت لنقابة الصحفيين واتحاد الادباء ونقابة الفنانين بتقديم ملفات من تنطبق عليهم الشروط المطلوبة! هذه الشروط التي من امثلتها ان يكون الصحفي بدرجة عضو في نقابة الصحفيين، بينما يعلم اهل المهنة ان هذه الدرجة يتطلب الحصول عليها العمل لعدة سنوات، واذا اخذنا بالنظر في ان الانفتاح في الاعلام لم يبلغ عمره سوى اربع او خمس سنوات فاننا بالنتيجة سوف نُفاجأ بأن اغلبية العاملين في الصحافة في السنوات الاخيرة لَن ينالوا المِنحة او لا تنطبق عليهم شروطها.
لذا فإنه من الواجب تكثيف الجهود والعمل المشترك للمطالبة بشمول كافة العاملين في الصحافة والاعلام بالمنحة المقررة.
ثورة المعلومات هي الاخرى بدأت آثارها تصل الى العراق بالتوسع في استخدام الانترنت، وعلى ذلك يجب الاخذ بنظر الاعتبار في ان البلد دخل حقبة جديدة لم يعد الإعلام فيها مقتصرا على المطبوعات والصحافة الورقية فهناك اليوم الصحافة الالكترونية، وقد دخلت الينا من اوسع الباب حتى اصبحت عشرات المواقع الاخبارية والاعلامية والثقافية في العراق، مصدراً لا يُستهان به للكثير من الافكار والاخبار والمواضيع والدراسات والبحوث التي تتناولها..
لذا فان الالتفات الى الصحافة الالكترونية والاهتمام بها واعتبارها وسيلة اعلام لاتقل اهمية عن باقي انواع الصحافة اصبح مطلبا متزايد الاهمية في ضوء التطور والحداثة التي يشهدها البلد..
كما ان هناك سبل اخرى يجب اقتفاءها من اجل الوصول بالصحفي والاعلامي الى حالة استقرار مهني بعيدا عن الغبن او الاعتداء او هضم الحقوق، ومن هذه السبل:
1- تفعيل دور النقابات والجمعيات والاتحادات التي تعنى بالصحافة والاعلام من خلال الالتفاف حولها وتقويتها باتباع مناهج عمل مكثفة كالدورات والندوات والاجتماعات الدورية التي تطرح من خلالها مشاكل وعراقيل الصحافة والصحفيين ونشرها بكافة وسائل الاعلام وايصالها لأعلى المستويات في الدولة من اجل الوقوف عليها ووضع الحلول المناسبة لها.
2- استخدام اساليب الضغط المعنوي تجاه الاشخاص والجهات التي تمارس العنف والترهيب والاساليب الملتوية لعرقلة عمل الصحافة، ولعل اسلوب طرح \"لائحة سوداء\" فصلية او نصف سنوية بأسماء الجهات والاشخاص المسيئين للصحافة من قِبل المنظمات الصحفية ونشرها بوسائل الاعلام المختلفة وعرضها على المنظمات الدولية المعنية، قد يكون له اثر كبير في تغيير نظرة الجهات المسيئة للصحافة والاعلام بحيث تتولد لديهم القناعة بضرورة احترام الصحافة كسلطة رابعة يمكن ان يكون لها اكبر التاثير في البلد، ووجوب عدم التجاوز عليها..
3- تضمين قانون حماية الصحفيين فقرة صريحة بشأن حق مؤسسات الاعلام والصحافة في مقاضاة اية جهة قامت بالإساءة او الاعتداء عليها او على احد منتسبيها بحيث يُعتبر التجاوز اعتداءا على موظف اثناء اداء الواجب.
4- ضرورة حماية الصحفي نفسه من المطبّات الاخلاقية المتعلقة بالمهنة كأن لا يكون أجيراً او كصاحب بضاعة يبيعها هنا وهناك متخذا من الكسب المادي شعارا أوحد، وأن يتمتع قدر الإمكان بالموضوعية والحياد، وتنبثق من هنا ايضا ضرورة ايجاد ضوابط عمل اخلاقية منبثقة من مواثيق شرف، لتنظيم العلاقة بين الصحفي والمؤسسات الصحفية عموما والجهة التي يعمل بها خصوصا.
وعلى ضوء المخاض الشديد الذي تشهده مفاصل العراق في مختلف النواحي فإن الدربكة الموجودة الان في ساحة الصحافة والاعلام ما هي إلا مرحلة من مراحل النضوج والوعي والبناء الفكري والثقافي للدولة الجديدة على اساس التنافس المنطقي والبقاء للأصلح لا على اساس الصراع والاستغلال.
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟ (الحلقة 7) التجربة الكوبية
- النشر الصحفي لقضايا الرأي العام