- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العدالة البطيئة والعدالة المتهافتة
بقلم: القاضي ناصر عمران
يقول (هاملت) احد أبطال مسرحيات شكسبير في المسرحية التي حملت اسمه: "ان العدالة البطيئة ظلم مستتر"، وتماهى معه الفرنسيون فقالوا: ان العدالة التي تسير ببطء هي ظلم صارخ في حين أرسى القضاء الانكليزي مبدأه الشهير Justice delayed is justice denied، والذي يقول: ان "تعويق تحقيق العدالة هو نكران للعدالة"، والعدل والحق لا يستقيمان مع البطء وبالتأكيد فان البطء ليس هو التأني والتمعن والتأمل امام ما تظهره الدعاوى من دلائل ومستندات وكشوف وتقارير ومطالعات متقابلة (طلبات ودفوع) فكل ذلك بلحاظ القاضي الذي لا ينفك عن البحث وفك احجية الربط والوصول بالأدلة الى تساندها تارة وتنافرها تارة اخرى وامام تقارير ومطالعات وطلبات ودفوع كلٌ يحاول الاستئثار بالاهتمام والحصول في النهاية الى منصة الحل التي تتجلبب برداء القرار والحكم الحاسم لتنطوي صفحة من صفحات عديدة مستمرة ومتزايدة للنزاعات القضائية ديدنها البحث عن العدالة.
وإذا كانت العدالة هي الهدف والغاية فان الأمر يتطلب من القاضي تحقيقها اولاً في اعتقاد اطراف الدعاوى المتخاصمون امامه بعدالته والاعتقاد بعدالة القاضي الناظر في النزاع ينتهي بالاعتقاد بحيادية القرار او الحكم الفاصل في النزاع المعروض وهذه يتأتى من خلال ادارة القاضي لجلسات المرافعة والمحاكمة او من خلال اجراءات وقرارات القاضي عند نظر الاوراق التحقيقية المعروضة عليه، وتقديم طلبات الخصوم يقتضي الاجابة عليها فعريضة الاستدعاء الاطار القانوني للطلبات المقدمة والتي تنشد مهما تعددت انواعها ورؤاه واتجاهاتها الحصول على العدالة التي يعتقد مقدمها بانه الاحق بها او يطلب انصافه بإعادة الحق اليه، لكن الامر قد ينقلب الى نقيضه مع حضور العدالة وتغدو العدالة قاصرة عن ان تمنح طالبها غايته ومقصده، فالحضور المتأخر للعدالة التي خرجت من تقاويم التأجيل والتدقيق لتصل أخيرا، هي عدالة غير مسجلة في سجل الحضور المنتج فالتأخير سلبها جوهرها كغاية وهدف. والعدالة قرينة الزمن فكلما كان حضورها ناجزاً وسريعا كان حضورها أبهى والعكس صحيح.
لم تكن العدالة البطيئة ظاهرة محددة بمكان وتخضع لزمان معين بل هي ظاهرة عالمية استدعت الدول الى معالجتها فالتشكي والتذمر من تأخير حسم الدعوى، دفع بالمشرع في حينه الى اصدار قراره المرقم (669 في 23/ 8 / 1987 الفقرتان (اولا وثانيا) الذي الزم بموجبه المحاكم المدنية والجزائية بحسم الدعاوى خلال السقوف الزمنية التي تحدد مدتها بتعليمات الا اذا كانت طبيعة الدعوى تتطلب اجراءات خاصة بها او كان العائق في حسمها خلال المدة المحددة لها سببا لا دخل للمحكمة فيه على ان تذكر ذلك في محاضر الجلسات وان تكون الطلبات المتكررة للتأجيل وقبولها قرينة على ضعف الحسم وحين ذاك سيجد القاضي المتراخي نفسه بمواجهة المسؤولية، ومثلما تكون العدالة البطيئة التي تأتي متأخرة هي إحدى مشاكل العمل القضائي عالميا فإن العدالة المتهافتة او القضاء المتهافت التي ترجع تسميتها كمفردة متداولة الى احد القضاة المصريين قبل ان تأخذ طريقها في الدراسات الجزائية أيضا ظلم كبير فالاستعجال وسبق الفصل قبل الأوان هو تخلٍّ عن حقيقة كامنة كانت تتأرجح بين الخصوم لم يمنحها القاضي وقتها المناسب كي تستقر اولا في الدعوى ومن ثم في قناعته وعقيدته التي بالتأكيد سيكون فبها مسؤولاً أمام محكمة التمييز للإجابة عليها.
ان تحقيق العدالة الناجزة الرصينة هي عنوان الحقيقة القضائية التي يسعى القضاء لان تكون هدفا وغايته ان المسار الصحيح الذي تفرضه مقتضيات وموجبات العدالة يستدعي انجاز الدعاوى في وقتها المحدد والزام القضاة والجهات ذات العلاقة بتطبيقه. كما ان الامر يحتاج الى اجراء تعديلات مناسبة على القوانين الاجرائية المدنية والجزائية والادارية التي مضى على تشريعها فترة زمنية طويلة غيبت الكثير من عوامل مواءمتها للجديد والمتطور ولكي تكون حاضرة ومعاصرة وبمستوى تحديات الراهن ولابد من وضع مشاريع هذه التعديلات على القوانين النافذة او تشريع قوانين ذات صلة للإسهام في تسريع حسم الدعاوى عن طريق تعديل قواعد التبليغات وإجراءات اقامة الدعوى واستثمار والاستفادة من التقدم التقني والتكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال والتواصل وتوفيرها لدى القضاة، وعلى المحكمة رد الطعون التي تهدف الى التأخير.
إن العدالة البطيئة والقضاء المتهافت تنعكس سلبا على مصالح المواطنين والدولة معا وقد تسقط الدعاوى بالتقادم ويخسر المدعون وذوي العلاقة والمال العام الكثير. كما ان سرعة الحسم وتنفيذ الاحكام والقرارات فور صدورها يحقق الردع العام ويوفر الطمأنينة ويحقق العدالة في وقتها المطلوب والا فلا جدوى من صدورها متأخرة وبالمقابل فان قضاء سريع متعجل يفقد العدالة معناها ويجعل الاستقرار بعيد المنال عن القرارات والاحكام القضائية التي وان رسم القانون طريقا للطعن في هذه الاحكام فإن الامر والاستقرار مرتبط بقرار وحكم قضائي ناهض بالتطبيق القانوني السليم وغير متعجل يقدم فيه القاضي نفسه بخبراته وتحصيله العلمي والعملي اضافة الى ثقافته وعلمية التي تشكل منظومة وقار الاحكام القضائية التي انتجها عند نظر الدعوى.
إن المعالجة الزمانية للدعاوى المنظورة او القضايا المعروضة تستدعي اولاً وضع أسس تتوافق مع المعايير الدولية لمباني المحاكم باعتبار أن هذه المعايير ضرورة لتحسين البيئة القضائية والقانونية وتطوير الجهاز القضائي ككل وقد شرع مجلس القضاء الاعلى بذلك عبر استراتيجيته الجديدة في تطوير البنى التحتية والموارد البشرية والتي اخذت بنظر الاعتبار عدم التناسب ما بين عدد القضايا والقضاة والمجلس يسعى لزيادة عدد القضاة والكادر الإداري في معظم المحاكم الامر الذي سيدفع الى تحقيق العدالة الناجزة التي تحمي الحقوق والحريات وتحفظها وترسخ مصداقية القضاء.
أقرأ ايضاً
- إمام العدالة
- اغتيال الامام علي بن ابي طالب (ع) اول محاولات القضاء على الدين والعدالة
- أثر الذكاء الاصطناعي في العدالة الجنائية