- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
لغة الحوار واحترام الرأي الآخر سبيل للإقناع
حجم النص
بقلم: د. إسماعيل طه الجابري
ما انفك أهل بيت النبوة (عليهم السلام) يعطون الدروس لأبناء الأمة الاسلامية - في كل الظروف والأحوال - شعوراً منهم بمسؤوليتهم التاريخية عن سلوك الفرد وحصانة المجتمع وإشاعة روح التسامح بين أبنائه. واليوم يعطينا الامام السجاد واحداً من أبلغ الدروس وأهمها، ليس لجيل واحد بل للأجيال عبر العصور والأزمان.
إنّ الثابت تاريخياً والمُجمع عليه عند علماء ومؤرخي المسلمين أنّ الامام زين العابدين قد دخل الى الشام ضمن ركب السبايا وهو مقيد اليدين والرجلين بسلاسل من الحديد، ومعه أهل بيته من النسوة في حالة يرثى لها، فضلا عن ذلك ما كان يعانيه من الوَجدْ على مَن فَقَدَهُم مِن الأب والأخ والعم والأصحاب، فهو بالمنطق لا يطيق التحدث مع أي إنسان، بل ولا يقوى على النطق؛ لثقل الموقف وعِظمه، ولكنّه أعطانا درسا أخلاقياً، وعلّمنا كيفية الحوار مع الاخر والصبر على الابتلاءات، والإقناع بالحجة، من خلال الحوار الذي جرى بينه وبين أحد الشاميين الشامتين بهؤلاء (الخوارج) كما كان الاعتقاد سائداً في بلاد الشام، جَرّاء الدعاية الإعلامية للسلطة. إذ رفع الشامي صوته بالقول: (الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم). ان الامام وهو في الحالة التي وصفناها كان بامكانه أن يَشُحَّ بوجهه عن الرجل، أو أن يزجره بأن أغرب عن وجهي. لكن المسؤولية الملقاة على عاتقه جعلته يتكئ على كل جراحاته ويجيب الرجل فجرى الحوار الآتي:
ــ يا شيخ قرأت القرآن؟
ــ نعم.
ــ أقرأت قوله تعالى: (قُلْ لَّآ أَسئَلُكُم عَلَيهِ أَجراً إلَّا المَوَدّةَ فِي القُربَى)، وقوله تعالى: (وَءَاتِ ذَا القُربَى حَقَّهُ)، وقوله تعالى:(وَاعلَمُوا أَنَّمَا غَنِمتُم مِّن شَيءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسهُ ولِلرَّسُولِ وَلِذِي القُربَى).
ــ نعم قرأتُ ذلك.
ــ فقال له الامام نحن والله القربى في هذه الآيات. ثم أضاف الامام حجة أُخرى ليزداد المعترض قناعة بقوله:
ــ أقرأت قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِجّسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرا).
ــ نعم قرأتها.
ــ نحن أهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير.
ــ رد الشيخ وقد سَرَتْ في جسمه الرعشة مِن هول ما سَمِع: بالله عليكم أنتم هم؟
ــ فأجاب الامام: وحق جدنا رسول الله إنا هم من غير شك.
مما تقدم يمكنا أن نستنتج أمرين دفعت بالإمام لإجابة الرجل وهما: الاول، كي يزيل من ذهنه وأذهان الناس في بلاد الشام ما أشاعته السلطة من أنَّ هؤلاء السبايا هم خوارج. والثاني هو ليؤدي رسالته بوصفه إماما للأُمة يحرص على بناء المحتمع وسلامته، ولكي تكون لنا وللأجيال القادمة درساً نتعلمه ونسير على هَدْيِهِ في الحوار بعضنا مع البعض الاخر، وأن نعتمد الحجة التي لاتقبل الشك أساساً للحوار والإقناع، فبغير الحوار واحترام الآخر وما يطرحه من آراء، لا يمكن لنا أن نجد مجتمعاً متصالحاً، ولا أفراداً متسالمين، فتشيع العداوة والبغضاء بيننا بدل الوئام والانسجام.
وهنا بودي أن أنهل من التاريخ الإسلامي والإنساني أمثلة تؤكد لغة الحوار وقبول الرأي الآخر. فقد ورد عن الامام الشافعي أنّه قال: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). وقال أيضا: (ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يُخطِأ. وما كلمت أحداً قط الا أحببت أن يُوفق ويُسدد ويُعان).
والتاريخ الإنساني أيضا فيه الكثير من الشواهد التي تؤكد على أدب الحوار واحترام الرأي الآخر، منها قول الفيلسوف الفرنسي فولتير: (قد أختلفُ معكَ في الرأي ولكني مستعدٌ لأن أدفعَ حياتي ثمناً لحقكَ في التعبير عن رأيك).
إذن إنها مناسبة طيبة للدعوة الى أن تسود مجتمعنا لغة الحوار الهادئ القائم على الحجة والدليل، المتميز بالهدوء وعدم الانفعال، المرتكز أساساً على احترام الآخر رأي ووجود ومعتقداً؛ من أجل أن نُسهم في بناء مجتمع يُشيع فيه السلم الأهلي وحرية التعبير عن الرأي من دون تعصب أو تكفير أو استهانة. والله الموفق.
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- النشر الصحفي لقضايا الرأي العام
- وسائل تضليل الرأي العام