حجم النص
بقلم:نـــــــــــــــزار حيدر انما يعاقب القانون الفرد لحماية المجتمع، فقد لا يضر السائق، الذي يتجاوز السرعة في الشارع العام، الا نفسه، الا ان القانون يجرمه ويعاقبه لاحتمال ان يسبب تجاوزه السرعة خطرا على الاخرين، ما يعني ان القانون، في فلسفته الحقيقية، يعنى بحماية المجتمع من خطأ الفرد. هذه الحقيقة المهمة التي اخذت بها المجتمعات المتطورة وغفلت عنها المجتمعات المتخلفة، تشكل معادلة في غاية الاهمية، وهي تعكس فلسفة القانون في تحقيق الامن في المجتمع. وبقراءة متانية لايات القرآن الكريم التي تتحدث عن الامن والسلم في المجتمع، نلاحظ انها تكرس فكرة ان الامن للجميع وان السلم لكل من يعيش في ظل الدولة، بغض النظر عن دينه او مذهبه او اثنيته او انتمائه الفكري والعقائدي، فالامن والسلم للجميع، لا يجوز ان تتماهل الدولة في ضمان الامن لمواطن ما بحجة انه على غير دين الاغلبية، او انه من الاقلية الاثنية او ما اشبه، ابدا. لقد وردت كلمة (السلام) (43) مرة في القرآن الكريم وهي تشمل في خطابها كل الناس، ما يعني ان السلام للجميع، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} لان السلام من اسماء الله الحسنى، قال تعالى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. والسلام يعني في جوهره أمن الفرد وأمن المجتمع، قال تعالى {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} وفي الايات اشارة واضحة الى الامن الاجتماعي والامن الغذائي، وهما مبررا عبادة الله تعالى، وهو كما قلت للجميع، فالاية لم تتحدث عن المؤمنين او عن فئة في المجتمع دون اخرى، ولذلك نلاحظ ان امير المؤمنين (ع) شرع الاستشهاد اذا ما مات امرءا كمدا بسبب تعرض امراة غير مسلمة للعدوان ولاي سبب كان، يقول عليه السلام {وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالاْخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً}. كما شرع القرآن الكريم الامن الفكري والثقافي والعقائدي لكل فرد في المجتمع، كذلك بغض النظر عن خلفيته وانتمائه، يقول تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} فمنع المشرع بذلك سياسة الفرض والاكراه في تغيير عقائد الناس، الى جانب منعه من نشر مفارز التفتيش العقائدي في الشوارع والطرقات، كما يفعل اليوم الكثير من المتزمتين الذين يدعون بانهم المسؤولون عن صيانة حرمة دين الله، كميليشيا الحزب الوهابي المحمية بسلطة آل سعود الفاسدة الحاكمة في نجد والحجاز، فقال تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ثم خاطب الرسول الكريم (ص) بقوله {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} بعد ان وهب عباده حرية الاختيار بعد الاصغاء للقول فقال تعالى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}. ان القرآن الكريم لم يذكر الامن والسلام الا بمصطلح (الناس) لانه حق للجميع بلا تمييز، وان راع يفشل في حماية رعيته من بطش الارهاب، وان سلطة تفشل في بسط الامن في المجتمع، لهي سلطة فاقدة لمبرر وجودها ولشرعيتها، فالامن اولا وقبل كل شيء، فبه يحمي المواطن دينه ودمه وماله وعرضه. والسؤال: هل يمكن تحقيق الامن والسلم في ظل سلطة غاشمة تستولي على الحكم بالضد من ارادة المجتمع؟ وتتصرف بشؤونه وخيرات بلاده بلا تفويض؟. بالتاكيد لا يمكن ذلك ابدا، ولهذا السبب فلقد قضت المجتمعات المتحضرة على كل اسباب الاستبداد ومقومات الديكتاتورية والسلطة غير المشروعة ومحاولات السيطرة على الحكم بالطرق غير الدستورية والقانونية، لتتمكن من تحقيق السلم الاهلي والمجتمعي، للفرد كما للمجتمع. ولهذا السبب فلقد حرم الاسلام اية سلطة لا تصل الى الحكم عن طريق ارادة الناس وانتخابهم لها بالطرق المعروفة في كل زمان ومكان، فمن ينزو على السلطة بقوة العسكر او بالتوريث او ما اشبه لا تكون سلطته شرعية ابدا، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية العقلية والحضارية. يقول المرجع الديني الراحل الامام الشيرازي (قدس سره) في كتابه (ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين): (ان كل من يصل الى الحكم بلا استفتاء حر من الشعب وبلا شورى منهم ولا انتخاب فهو باطل وليس من الاسلام في شيء سواء كان وصوله الى الحكم بسبب العشيرة والقبيلة او بسبب الملكية الوراثية او بسبب الانقلاب العسكري او بغير ذلك). واذا قرأنا فلسفة نهضة سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهم السلام فسنجد انه استهدف برفضه للبيعة للطاغية يزيد بن معاوية ابن آكلة الاكباد ما يلي: اولا: اسقاط شرعية السلطة الاموية التي لم تصل الى الحكم بارادة الناس وانما فرضت عليهم فرضا عندما حول الطاغية معاوية الحكم في بلاد المسلمين من (الشورى) الى التوريث، ما يخالف فلسفة الحكم والسلطة في الاسلام وعند العقلاء، قال تعالى {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} و {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} فقرن تعالى الشورى بالتوحيد والصلاة، وهي عمود الدين، بمعنى ان من لا يمارس الشورى لا دين له، كما قارنها بالخلق العظيم الذي تميز به الرسول الكريم بنص قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. ثانيا: سعيه لتحقيق السلم الاهلي والامن المجتمعي في البلاد، لان السلطة التي تنزو على الحكم بالضد من ارادة المجتمع تشكل البذرة الاولى التي تنتج الانفلات الامني والعنف والارهاب. ولذلك قال الامام قولته المشهورة عندما (نصحه) البعض بالبيعة للطاغية يزيد {إنا لله وإنا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد}. ان رفض الامام البيعة ليزيد كانت لحماية المجتمع من خطر الارهاب وانعدام الامن، فلو ان الامة وقفت الى جانبه لما جرت عليها ما جرت من محن عظيمة دمرتها وفتتت نسيجها ووحدتها وتسببت بابتعادها عن الامن والسلم الاهلي والحياة الحرة الكريمة. لقد مثل قتل يزيد للامام قتل الامة، فعندما تجرأ الطاغية يزيد على قتل سبط رسول الله (ص) تجرا في العامين التاليين من حكمه النحس على استباحة مدينة رسول الله (ص) لمدة ثلاثة ايام قتل فيها آلاف الصحابه والتابعية والقراء، وانتهكت فيها اعراض المسلمين، في العام التالي، فيما تجرأ على قصف بيت الله العتيق الكعبة المشرفة في مكة المكرمة بالمنجنيق ليدمرها، وهو (خليفة المسلمين) في العام الثالث. ولم يغفل كبار الصحابة عن هذه الحقيقة، ولذلك فان كل من (نصح) الامام بعدم ترك المدينة المنورة او المكوث في مكة المكرمة انما كان يؤكد على هذه الحقيقة في حديثه مع الامام، فلقد قال له بعضهم (اذكرك الله في حرمة الاسلام ان تنتهك، انشدك الله في حرمة قريش وذمة العرب، والله لئن طلبت ما في ايدي بني امية ليقتلنك ولئن قتلوك لا يهابون بعدك احدا) ما يعني انهم تيقنوا جيدا من ان قتل الامام هو قتل للدين والامة والقيم السماوية، فهم، في حقيقة امرهم، كانوا يحاولون ان يدافعوا عن انفسهم قبل الدفاع عن الامام، الا انهم اخطأوا الطريقة بتغافلهم عن حقيقة الامر، فبينما كان الامام يتصور جازما وبلا تردد او شك بان رفض البيعة هو الطريق الاستراتيجي الاسلم لمنع انزلاق الامة في طريق الانفلات الامني والعنف والارهاب، فانهم كانوا يظنون، واكثر الظن شك، بان بيعته او الانزواء على الاقل والابتعاد عن طريقه هو الطريق الاسلم لذلك، ليثبت للجميع فيما بعد بان خط الامام هو الصحيح وان ما اختاروه كان خطأ في خطأ. ان من الخطأ الفاحش اذا تصور احد بان ترك الظالم وشانه سيجنبه غضبه او عدوانه، ابدا، فالظالم لا يكتفي من احد السكوت او جلوسه في البيت وترك السلطة وشانها، لان من طبيعة الظالم انه يفعل المستحيل من اجل ان يرى المجتمع، كل المجتمع، راكعا على ركبتيه امامه، ذليلا وخاضعا ومستسلما، كما انه يعشق منظر التصفيق والمديح والثناء والاطراء والتزلف من كل المجتمع بلا استشناء، خاصة مفاتيح المجتمع العلمية والفكرية والثقافية والاقتصادية، ولهذا السبب فان اول رسالة حررها الطاغية يزيد حال توليه السلطة بعد هلاك ابيه، كانت رسالته الى واليه على المدينة المنورة، الوليد بن عتبة، والتي طلب منه فيها اخذ البيعة من الامام باشد واقسى عبارات التهديد والوعيد، بقوله (أما بعد، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة، حتى يبايعوا، والسلام). فضلا عن ذلك، فان السلطة تترك بضلالها على كل المجتمع فكيف يفكر احد بالانزواء كطريق للهرب من آثارها؟ اوليس ظل السلطة يشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والصحة والحرب والسلم والفكر والثقافة والاعلام والبيئة وكل شيء؟ فكيف لاحد ان ينزوي عن اي شيء من هذا؟ الا ان يترك البلاد ومن عليها مهاجرا الى ارض الله الواسعة، بل حتى المهاجر لا يسلم من السلطة اذا كانت ظالمة، اولم يلاحق الطاغية الذليل صدام حسين معارضيه في كل حجر ومجر وفي كل بلاد الهجرة في الاتجاهات الاربعة ليغتالهم ويقتلهم ويقطع بعضهم اربا اربا ويرميهم في المزابل، كما حصل لاحدهم في السويد بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي؟ الم يقتل الشيرازي والسهيل في بيروت؟ والحكيم في الخرطوم؟. ان على المواطن ان يتحمل مسؤولياته ازاء السلطة، فاذا كانت عادلة اعانها على عدلها، واذا كانت ظالمة اخذ على يديها، واذا كانت تحاول ان تعدل فان عليه ان يسددها وينتقدها ويراقبها ويصرخ بوجهها اذا رآها تتمادى في طريق الشر، اما ان يجلس في بيته متفرجا او يترك حبل الامور على غاربها، فان نار الظلم ستحرق اذياله ان عاجلا ام آجلا، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله (ص) {من اعان ظالما سلطه الله عليه} والسكوت اعانة كما هو معروف، فالى متى نظل نبرر للظالم ظلمه؟ والى متى نظل نبرر للفاشل فشله؟ والى متى نظل نبرر للص سرقاته من المال العام؟ والى متى نظل ندافع عن الزعيم لهويته فحسب؟. تاسيسا على هذه المعادلة الدقيقة اقول بان عاشوراء كانت لتحقيق الامن، من خلال السعي لاقصاء سلطة نزت على الحكم بالقوة والفرض والاكراه، ولست هنا بحاجة الى ان اسرد قصص كيفية اخذ الطاغية معاوية للبيعة لابنه يزيد، فلقد وظف كل وسائل الترغيب والترهيب وشراء الذمم وجنود ابليس، فقتل واستباح واغتال وطارد ووهب المناصب ومنح الاعطيات ووزع المال العام، من اجل ان يطمئن على خلافة ابنه له. وان ما يؤسف له هو ان مجتمعاتنا لازالت تعاني من نفس المشكلة على الرغم من انها تمتلك عاشوراء، فهي لا زالت تعاني من انعدام الامن وغياب السلم الاهلي، بسبب سلطة النظام السياسي البوليسي الذي نشر مخالبه في كل مفاصل الحياة، فعد الانفاس وحرم التفكير الحر ومنع الحوار وقمع المعارضة، فهل يعقل ان مجتمعاتنا ستنعم بالامن في ظل هذه الاجواء البوليسية؟. ان مجتمعا تحكمه الضواري والسباع المفترسة واللصوص والفاسدين لن ينعم بالامن والسلم الاهلي ابدا. [email protected] 31 تشرين الاول 2013
أقرأ ايضاً
- دور الاعلام القضائي في تحقيق الأمن القانوني
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول
- "منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط" في دهوك /2