- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
بعض الجوانب المشرقة من حياة أمير المؤمنين / الجزء الخامس
حجم النص
بقلم: عبود مزهر الكرخي شعب أبي طالب: اتخذت قريش شتى الأساليب لردع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأتباعه من المسلمين، ولمَّا أنّ رأت أنّ الإسلام يفشو ويزيد، اتفقوا بعد تفكير طويل على قتل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم، وأجمع مَلَؤُها على ذلك، وبلغ أبا طالب فقال: والله لـن يصلـوا إليك بجمعهم***حتَّـى أُغيَّب في التراب دفينا ودعوتنـي وزعمت أنَّك ناصِـحٌ***ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينـاً وعرضت دينــاً قد علمتُ بأنَّه***من خير أديان البرية دينا. (١) ولمَّا علمت أنَّها لا تقدر على قتله، وأنَّ أبا طالب لا يسلّمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة التي تنصُّ على مقاطعة بني هاشم وإتباعهم وحصرهم في مكان واحد، وقطع جميع وسائل العيش عنهم، وألاّ يناكحوهم حتَّى يدفعوا إليهم محمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم فيقتلوه، وإلا يموتوا جوعاً وعطشاً، وختموا على الصحيفة بثمانين خاتماً. وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار، فشلَّت يده (٢) وقيل. وقَّعها أربعون من زعماء مكَّة، ثُمَّ علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة وحصروهم في شعب أبي طالب ست سنين (٣)، وذلك في أول المحرم من السنة السابعة لمبعث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقيل: استمر نحواً من سنتين أو ثلاث (4)، حتَّى أنفق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ماله وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلى حدِّ الضرِّ والفاقة، واشتدت بهم الضائقة، حتى اضطرتهم إلى أكل الأعشاب وورق الأشجار، ومع ذلك فلم يضع أبو طالب وولده علي عليه السلام وأخوه الحمزة شيئاً في حسابهم غير النبيّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ورعايته، حتَّى لا يتسلَّل أحد من المكِّيين ليلاً لاغتياله، وكانت هذه الخاطرة لا تفارق أبا طالب في الليل والنهار. جاء في تاريخ ابن كثير (5): أنَّ أبا طالب قد بلغ من حرصه على حياة محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم أنَّه كان اذا أخذ الناس مضاجعهم في جوف الليل، يأمر النبي أن يضطجع على فراشه مع النيّام، فإذا غلبهم النوم أمر أحد بنيه أو إخوته فأضجعهم على فراش الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمر الرسول أن يضطجع على فراشهم حرصاً منه عليه، حتَّى لو قدِّر لأحد أن يتسلَّل إلى الشعب ليلاً لاغتياله يكون ولده فداءً لابن أخيه. تضحيات علي عليه السلام: وللمزيد من الاحتياط والحرص على سلامة حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) كان أبو طالب يطلب من ولده عليّ أن يبيت في مكان الرسول ليلاً حرصاً على سلامته من الاغتيال والمباغتة من قبل الأعداء من خارج الشِعب(6)، وكان عليّ (عليه السلام) يُسارع إلى الامتثال لأوامر والده ويضطجع في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله) فادياً نفسه من أجل الرسالة وحاملها. وكان الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام أثناءها يأتيهم بالطعام سراً من مكة، من حيث يمكن، ولو أنهم ظفروا به لم يُبْقُوا عليه، كما يقول الإسكافي وغيره.(7) لم يكن لأحد أن يقوم بمثل هذه الأعمال في تلك الفترة العصيبة إلاّ من ملك جناناً ثابتاً وقلباً شجاعاً ووعياً رسالياً وحبّاً متفانياً للرسول (صلى الله عليه وآله)، ذلك هو عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) الذي قضى في الشِعب جزءً من زهرة شبابه حيث دخله وعمره سبعة عشر عاماً وخرج منه وعمره عشرون عاماً، فكانت تجربة جديدة في حياته عَوَّدته على الاستهانة بالمخاطر، وأهّلته لتلقّي الطوارئ والمهام الجسام، وجعلته أكثر التصاقاً بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) كما عوّدته على الصبر والطاعة والتفاني في ذات الله تعالى وحبّ الرسول(صلى الله عليه وآله).وأوعزت قريش إلى صبيانهم بمحاربة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وإلقاء الحجارة والتراب والرماد عليه، وإنّما عمدت لذلك لتعتذر من أبي طالب حامي النبيّ، والمدافع عنه، وتنفي عنها المسئولية وتلقيها على أطفالهم وصبيانهم الذين لا يعقلون، ولا يؤاخذون بشيء من أعمالهم، وقد تصدّى لأولئك الصبيان الإمام عليه السلام، وكان في سنّه المبكّر قويّ الساعدين، يحمل عليهم بعنف وقسوة فيوجعهم لكما وضربا، فإذا خرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم سار الإمام خلفه، فإذا رأوه فرّوا منهزمين إلى آبائهم وأمهاتهم يسايرهم الرعب والخوف من الإمام.(8) إجماع القرشيّين على قتل النبيّ: وبعد ما نكب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بفقد عمّه حامي الإسلام وزوجته خديجة صمّم على مغادرة مكّة والهجرة إلى يثرب ؛ لأنّه وجد فيها ركنا شديدا يأوي إليه، وهم الذين آمنوا بدعوته من الأوس والخزرج، فقد كانوا قوّة ضاربة تحمي دعوته. وحينما أشيع عزم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على الهجرة إلى المدينة اضطرب القرشيّون وتعاظم سخطهم، وورمت آنافهم، فاجتمعوا بدار الندوة، وعرضوا فيها الأخطار الهائلة التي منوا بها من دعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم التي صبا إليها شبابهم ونساؤهم ورقيقهم والمستضعفون في ديارهم، فصمّموا على قتل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مهما كلّفهم الأمر، وكان فيما يروي بعض المؤرّخين قد حضر إبليس في ندوتهم فأشار عليهم بإسناد تنفيذ الجريمة إلى عدد يربو على أربعين شخصا ينتمي كلّ واحد منهم إلى قبيلة معيّنة حتى من الأسرة الهاشمية، وبذلك يتّخذ قتله صفة عامّة لجميع القبائل فلا تكون قبيلة معيّنة مسئولة عن دمه حتى لا يستطيع أنصاره والمؤمنون به التأثر منهم جميعا، وقد عيّنوا يوما لذلك سمّوه يوم الزحمة، وأخبر الله تعالى نبيّه العظيم بما عزمت عليه قريش في قتله.(9) هجرة النبيّ إلى يثرب: ولمّا حان اليوم الذي عيّنته قريش لقتل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أحاطوا ليلا بداره من جميع الجهات شاهرين سيوفهم يترقّبون بفارغ الصبر طلوع الفجر لتمزّق سيوفهم جسم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ويطفئوا ذلك النور الذي أراد أن يحرّرهم من ظلمات الجاهلية ومآثم الحياة. لقد أرادت قريش أن تنصر أصنامها وأوثانها وتعيد ما فقدته من الهيبة في أوساط العرب. مبيت الإمام على فراش النبيّ: وأوعز النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أخيه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أن يبيت في فراشه، ويتّشح ببردته الخضراء (10)؛ ليوهم على أولئك الأقزام أنّه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى يسلم من شرّهم، وهنا تتجلى صفحة من صفحات عظمة علي (عليه السلام)، إذ استقبل أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بنفس مؤمنة صابرة مطمئنّة، فرسم لنا أكمل صورة للطاعة المطلقة في أداء المهمّات استسلاماً واعياً للقائد وتضحية عظيمة من أجل العقيدة والمبدأ، فما كان جوابه (عليه السلام) إلاّ أن قال للرسول(صلى الله عليه وآله): «أوتسلم يا رسول الله إن فديتك نفسي؟». فقال (صلى الله عليه وآله): «نعم بذلك وعدني ربّي»; فتبسّم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته.(11) ثمّ ضمّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى وَجْداً به، فبكى عليّ (عليه السلام) لفراق رسول الله (صلى الله عليه وآله)(12).تلقّى الإمام عليهالسلام أمر النبيّ بمزيد من السرور والابتهاج وشعر بالسعادة التي لم يحلم بها من قبل ليكون فداء لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. وخرج النبيّ من الدار، ورماهم بحفنة من التراب أتت على وجوههم الكريهة قائلا: « شاهت الوجوه ذلاّ ». وأخذ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يتلو قوله تعالى: (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ).(13) إنّ مبيت الإمام عليهالسلام على فراش النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ووقايته له بنفسه صفحة مشرقة من جهاده، ومنقبة لا تعدّ لها أيّة منقبة، وقد أنزل الله تعالى آية من كتابه، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ} (14)، ويقول الرواة: إنّ الله تعالى باهى ملائكته بالإمام، فقد أوحى إلى جبرئيل وميكائيل أنّي آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة على صاحبه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما: أفلا كنتما مثل عليّ ابن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس عليّ، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل يقول للإمام: « بخّ بخّ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله عزّ وجلّ به الملائكة »، فأنزل الله على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ}.(15) إنّ مبيت الإمام في فراش النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يوحي أنّه الشخصية الثانية في رسالة الإسلام الذي يخلف النبيّ ويمثّل شخصيّته ويقوم مقامه، ولهذه الكرامة دور مهم في دعوة الإسلام لم ينلها أحد من اسرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه. ولمّا حانت ساعة تنفيذ خطّتهم; هجموا على الدار، وكان في مقدّمتهم خالد ابن الوليد، فوثب عليّ (عليه السلام) من فراشه فأخذ منه السيف وشدّ عليهم فأجفلوا أمامه وفرّوا الى الخارج، وسألوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): فقال: لا أدري إلى أين ذهب. وهنا جاءت الآية الكريمة، ففي ظلّ قوله تعالى: { ويَمكُرون ويَمكُر اللهُ واللهُ خيرُ الماكرين}.(16) قال الطبري في (جامع البيان في تفسير القرآن): هذه كناية في عليٍّ عليه السلام. ثمّ ذكر أنّ مكرهم هو توزيع السيوف على بطون قريش، أمّا مكرُ الله فهو منام عليٍّ على فراش النبيّ صلّى الله عليه وآله أمّا أهل التفسير فكانت لهم بيانات وتعليقات. مهامّ ما بعد ليلة المبيت: مع إطلالة فجر اليوم الأوّل للهجرة المباركة وإحاطة السلام والآمان الآلهي لنبينا الأكرم محمد(ص) والتي كانت تمثل الخطوة الأولى للهجرة إلى يثرب حيث هي العاصمة الإسلامية للنبي محمد(ص) وذهاب الخطر إلي كان يحدق بأخيه ورسوله وانفراج الليل الرهب الذي كان يمثل كل الخطر على حبيبه ونبيه للأمام علي(ع) وكل الاحتمالات الواردة من مكر وغدر قريش للرسول الأعظم(ص) ودون إن يمس أي خطر للنبي وله ولهذا كان أن قام بالمهمة العظيمة الموكلة إليه من السماء على أحسن وجه و كان على قدر عال من الانضباط والدقّة والوعي في التنفيذ والذي يعتبر أول فدائي في الإسلام.. وبقيت أمام عليّ (عليه السلام) مهمات اُخرى لم يكن بمقدور أحد أن يقوم بها، منها: أداء الأمانات التي كانت مودعة عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) الى أصحابها ـ وهم من المشركين ـ الذين وثقوا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) لأمانته وإخلاصه، فقد اشتهر بين قريش بالصادق الأمين، وكذلك من يقدم من العرب في الموسم فأودعوا عنده الحلي والأموال، ولم يكن الرسول ممّن يخل بتعهداته أو يخون أماناته حتى ولو كانت الظروف المحيطة صعبة والخطورة تهدّد حياته الشريفة في تلك اللحظات المتسارعة التي يطير لبّ العاقل فيها، لم ينس النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يوكل هذه المهمّة الى رجل يقوم بها خير قيام، ولم يكن إلاّ عليّ (عليه السلام) لأنّه الأعرف بشؤون رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبالمودعين وأموالهم وهو القويّ الأمين. فأوصل (عليه السلام) الأمانات الى مَن كان من أصحابها، ثم قام على الكعبة منادياً بصوت رفيع: يا أيّها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من صاحب عدة له قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فلمّا لم يأت أحد لحق بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكان مقام عليّ بن أبي طالب بعد النبي بمكّة ثلاثة أيام.(17) هجرة الإمام عليّ (عليه السلام): وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى (قُبا) بسلام، واستقبلته جموع الأنصار، ومن هناك بعث بكتابه إلى عليّ (عليه السلام) يأمره فيه بالمسير إليه والإسراع في اللحاق به، وكان قد أرسل إليه أبا واقد الليثي، وحين وصل اليه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشترى عليّ (عليه السلام) الركائب وأعدّ العدّة للخروج، وأمر من بقي معه من ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا(18) إذا ملأ الليل بطن كلّ واد إلى ذي طوى(19)، وبدأت المهمّة الشاقّة الثالثة أمام عليّ (عليه السلام) وهي الرحيل برفقة النساء نحو يثرب، وخرج هو ومعه الفواطم: فاطمة بنت رسول الله، واُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفاطمة بنت حمزة، وتبعهم أيمن مولى رسول الله وأبو واقد الليثي.(20) روى أنه:((أن علياً (عليه السلام) لما عزم على الهجرة قال له العباس...الى آخر ما تقدم من أبياته (عليه السلام)، ثم قال: فكمن له مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل، فلما رآه سل سيفه ونهض إليه، فصاح عليٌّ به صيحة خرَّ على وجهه، وجلله بسيفه! فلما أصبح توجه نحو المدينة، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب بثمانية فوارس)). وهذه أول صيحة وأول ضربة سيف من علي (عليه السلام) صلوات الله عليه وسلم.(21) وتولّى أبو واقد الليثي سوق النياق، ولشدّة خشيته كان يحثّ الخطى سريعاً حتى لا يلحق بهم الأعداء. وعزّ على عليّ (عليه السلام) أن يرى نساء بني هاشم على تلك الحالة من الجهد والعناء من سرعة الحركة، فقال (عليه السلام): أرفق بالنسوة أبا واقد، إنّهن من الضعائف. وأخذ (عليه السلام) بنفسه يسوق الرواحل سوقاً رقيقاً، وهو ينشد ليبعث الطمأنينة في نفوس من معه: ليـس الا الله فارفع ظنَّكا***يكفيك ربُّ الخلق ما أهمَّكا ومن بطولة الأمام علي (عليه السلام) أنه قام بدوس غطرسة قريش في طريق الهجرة وذلك في هجرته حيث روي:((وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب، وعددهم سبعة فوارس من قريش مستلئمين وثامنهم مولى لحرب بن أمية يدعى جناحاً، فأقبل علي (عليه السلام) على أيمن وأبي واقد، وقد تراءى القوم، فقال لهما: أنيخا الإبل واعقلاها، وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم (عليه السلام) منتضياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: أظننت أنك يا غُدَر ناج بالنسوة؟! إرجع لا أباً لك! قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك! ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته، وتختله علي فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة (22)فرسه، فكان (عليه السلام) يشد على قدمه شد الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول: خلوا سبيل الجاهد المجاهدِ***آليت لا أعبدُ غير الواحدِ فتصدع عنه القوم وقالوا له: أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب. قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيثرب فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليتعقبني أو فليدن مني. ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياكما)).(23) وهذه ثاني ضربة سيف لعلي، صلوات الله عليه وسلم. فواصل الركب المسير حتّى وصلوا «ضجنان» فلبث فيها يوماً وليلة حتى لحق به نفر من المستضعفين، وبات فيها ليلته تلك هو والفواطم يصلّون ويذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلّى بهم عليّ (عليه السلام) صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله حتى قدموا المدينة. وقد نزل الوحي قبل قدومهم بما كان من شأنهم وما أعدّه الله لهم من الثواب والأجر العظيم بقوله تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السماوات... فاستجاب لهم ربّهم... فالذين هاجروا واُخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي وقاتلوا... ولأدخلنّهم جنات... والله عنده حسن الثواب}.(24) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في «قباء» نازلاً على عمرو بن عوف، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يصلّي الخمس قصراً، يقولون له: أتقيم عندنا فنتّخذ لك منزلاً ومسجداً؟ فيقول (صلى الله عليه وآله): لا، إنّي أنتظر عليّ بن أبي طالب، وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطناً منزلاً حتى يقدم عليٌّ، وما أسرعه إن شاء الله!. (25)وحين وصل عليّ (عليه السلام); كانت قدماه قد تفطّرتا من فرط المشي وشدّة الحرّ، وما أن رآه النبيّ (صلى الله عليه وآله) على تلك الحالة; حتى بكى عليه إشفاقاً له، ثمّ مسح يديه على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك.(26) ثمّ إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا قدم عليه عليّ (عليه السلام); تحوّل من قباء الى بني سالم ابن عوف وعلي معه، فخطّ لهم مسجداً، ونصب قبلته، فصلّى بهم فيه ركعتين، وخطب خطبتين، ثمّ راح من يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعليّ لا يفارقه، يمشي بمشيه، وأخيراً نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند أبي أيوب الأنصاري وعليّ معه حتى بنى له مسجده وبنيت له مساكنه، ومنزل عليّ (عليه السلام) فتحوَّلا إلى منازلهما.(27) من معاني مبيت الإمام (عليه السلام) في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله): 1 ـ إنّ مبيت الإمام (عليه السلام) ليلة الهجرة في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله) بمثابة إعلان عن نضج شخصية الإمام علي الرسالية، وأهليّته في أن يمثّل شخصيّة الرسول الّذي يعهد اليه في كلّ أمر مستصعب وخطب جليل ودعوة مهمّة. 2 ـ كانت عملية التمويه على قريش بارتداء الإمام (عليه السلام) رداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومبيته في فراشه ربطاً لصلة القرابة بالعلاقة المبدئية، وتأكيداً لمبدأ أنّ نفس علي هي نفس الرسول(صلى الله عليه وآله)، وخصوصاً حين أتمّ مهامّه الاُخرى التي تصرّف فيها الإمام بالاُمور المالية والاجتماعية الخاصة بالرسول(صلى الله عليه وآله). 3 ـ إنّ ثبات الإمام (عليه السلام) ثلاثة أيام في مكّة كان تأكيداً لشجاعته حين أعلن الإمام بكلّ جرأة وثقة موقفه المبدئي بأنّه ثابت على خطى الرسول، وقد نفّذ أوامره وأنجز مهامه بهدوء ودقة تامّة، ثمّ هجرته العلنية أمام أنظار قريش. 4 ـ تجلّت في عملية المبيت بعض الجوانب العظيمة من شخصيّة الإمام (عليه السلام) والتي أوجزت حقيقة شجاعة الإمام وقوّته النفسية والبدنية ونضوجه الذهني ووعيه الرسالي واستيعابه للأوامر الآلهية.(28) وهنا لابد ان ننوه إلى نقطة مهمة أن هذه الأمور البطولية والمواقف الشجاعة التاريخية لأمير المؤمنين والتي لم يقم أي شخص وعلى مدى التاريخ وهي تمثل إحدى الركائز الأساسية التي قام عليها الإسلام وبتضحيات هذه الشخصية الخالدة والتي لولاها لما قام دين محمد ةالتي عرف نبينا الأكرم محمد(ص) أين يضع كل ثقله في حفظ وقيام بهذه الشخصية العظيمة لسيدي مولاي أمير المؤمنين روحي له الفداء.وهذه كلها قد أغفل عنها التاريخ أو في أفضل الأحوال إن يمر عليها مروراً سريعاً من اجل غايات ومرامي خبيثة وهي العداء للأمام علي وأهل البيت(صلوات الله عليه أجمعين)و تماشياً مع رغبة وأهواء حكام بني أمية وبني العباس وهذا يمثل قمة التزييف في التاريخ والظلم له هو يجري على قدم وساق منذ ذلك الزمن وحتى الآن وبمنهجية وحرفية عاليه بغضاً له. وفي أجزائنا القادمة سوف نستعرض تلك السيرة العطرة لحياة سيدي ومولاي علي بن أبي طالب(ع) والتي تحتاج لوقفات طويلة وكثيرة والتي سوف نقوم بسردها أن شاء الله إن كان لنا في العمر بقية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر: 1 ـ تاريخ اليعقوبي ٢: ٣١. ٢ و ٣ ـ نفس المصدر. 4 ـ الكامل في التأريخ ١: ٦٠٤. 5 ـ البداية والنهاية ٣: ٨٤، بتصرف. 6 ـ البداية والنهاية لابن كثير: 3 / 84. 7 ـ موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١ و ٢ باقر شريف القرشي ص209 8 ـ نفس المصدر 9 ـ امتاع الأسماع ـ المقريزي ١: ٣8. 10ـ امتاع الأسماع ـ المقريزي ١: ٣9. 11 ـ ذكر قصّة مبيت الإمام عليّ (عليه السلام) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله) عدد كبير من العلماء والمؤرّخين منهم: الطبري: 2 / 99، وأحمد بن حنبل في مسنده: 1 / 331، واُسد الغابة: 4 / 45، وابن عساكر في تأريخ دمشق: 1 / 137، والحاكم في المستدرك: 3 / 4، وبحار الأنوار: 19 / 60. 12 ـ أعيان الشيعة: 1 / 275. 13 ـ [ يس: ٩]. 14 ـ البقرة: ٢٠٧. 15 ـ موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١ و ٢ باقر شريف القرشي ص213 ـ 215 16 ـ [ الأنفال:30 ] 17ـ المناقب لابن شهرآشوب: 2 / 58، ومروج الذهب للمسعودي: 2 / 285. 18 ـ يتخفّفوا: لا يحملوا معهم شيئاً يثقل عليهم. 19 ـ ذي طوى: موضع قرب مكة. 20 ـ أمالي الطوسي: 2 / 84، وعنه بحار الأنوار: 19 / 64. 21 ـ مناقب آل أبي طالب:1/335، عن الواقدي، وأبي الفرج النجدي، وأبي الحسن البكري، وإسحاق الطبراني. 22 ـ والكاثبة: مجتمع الكتف! 23 ـ أمالي الطوسي/470. بحار الأنوار: 19 / 65. 24ـ آل عمران (3): 191 ـ 195، راجع بحار الأنوار: 19 / 66 ـ 67. 25 ـ روضة الكافي: 339. 26 ـ بحار الأنوار: 19 / 64، والمناقب لابن شهرآشوب: 1 / 182، والكامل لابن الأثير: 2 / 106. 27 ـ روضة الكافي: 339 ـ 340. 28 ـ أعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) ص71
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- ماذا بعد لبنان / 2