حجم النص
بقلم :محمد الحسن
السياسة , هي فن الخدمة ..لكن بعض الحركات التي تمتلك عقل جمعي فوقي يتميز بسلبية كبيرة لا تستطيع القيام بذلك الفن , فهي تعتبر الناس أقل شأناً من أبناء منطقتهم الخضراء .. لذا , فقد فضّلت تلك المجاميع الأعتماد على السفسطة والخداع كأسلوب عمل لعبور المراحل التي يمر بها البلد بما يخدم مصالحهم فقط .
أطلقت كتلة (القانون) مشروع لتجريم حزب البعث , ولو تتبعنا حركة زعيم حزب الدعوة وحكومته في تعاملها مع (البعث) , نصاب بالذهول ونكتشف أزدواجية ونفاق سياسي في تعاطيها مع كل القضايا المطروحة في الساحة ,سيما ملف حزب البعث (المنحل ) .. وقد أصبحت كلمة (منحل ) مرافقة بشكل رسمي لذلك الحزب الفاشي , حتى أخذت بعض الأفواه تطالب بعودته إلى الحياة السياسية في العراق , أي أن الحزب أصبح في عداد الأموات الراقدين في مزابل التاريخ دون أدنى أمل بالعودة , فقد كفل الدستور هذا الأمر .
البعث في العراق الجديد ..
جاء في الباب الأول من الدستور العراقي وضمن المبادئ الأساسية بالمادة 7 أولا ( يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له , وبخاصة البعث الصدامي في العراق وتحت أي مسمى كان , ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق , وينظم ذلك بقانون ) .. تأسست هيئة أجتثاث البعث (المساءلة والعدالة لاحقاً) وفق الدستور , أي أنها هيئة دستورية مصادق عليها , وقد جاء في نص قانون الهيئة (استناداالىاحكامالدستوروبحسبالمواد (7) اولاو(60) ثانياو(61) اولاو(73) ثالثاو(135) وبناءعلىمااقرهمجلسالنوابومصادقةمجلسالرئاسةشرعهذاالقانون .) ..
تهدف هذه الأجراءات إلى أزالة آثار البعث من المجتمع العراقي وأعادة تأهيل أعضاءه بما يتماشى مع الديمقراطية والمجتمع , فضلاً عن ضرورة إقصاء وأزاحة كبار البعثيين (الضباط والمدنين ) من المواقع والمسؤوليات في الدولة العراقية , بحيث تزاح كل تبعات التعسف والأجرام الذي مورس بحق الشعب العراقي من قبل تلك العصابة التي حكمت البلد بالحديد والنار , فلم تقدم لأرض الرافدين إلا أهراق الدماء وتجفيف منابع الخير والعطاء التي حبى الله بها تلك البقعة الطاهرة .
أستثناء البعث !!
بعد أن شُرع القانون بالأستناد على الدستور , وتشكّلت الهيئة تحقق الأنجاز الأكبر والأهم في عملية أعادة الحقوق وأزالة آثار ذلك النظام الذي ملئ الأرض فواجع .. لم يبقى سوى أن تأخذ السلطة التنفيذية المبادرة وتعمل وفق المسؤولية المناطة بها , والمطلع على قانون هيئة المساءلة والعدالة , يجده قانوناً راقياً يُنصف طرفي المعادلة (الضحية والبعثي ) حيث يأخذ على عاتقه (أعادة تأهيل شخوص البعث الغير مطلوبين قضائياً ) , ولو قُدر لهذا القانون أن ينفذ وللهيئة أن تعمل بمهنية وحيادية لتخلص المجتمع العراقي من مشاكل كثيرة لا زالت عالقة وأصبحت (مفقس للأزمات ) .. لكن السلطة التنفيذية والمتمثلة بشخص رئيس الوزراء تعاملت مع القانون بأنتقائية مريبة حتى صار يُطلق على الهيئة (هيئة أستثناء البعث ) !!
أن أستحداث وزارة المصالحة الوطنية فتح الباب واسعاً لعودة البعثيين إلى الحياة السياسية , لم يتوقف الأمر على أعضاء البعث السابقين , بل تعاملت (المصالحة ) مع الفصائل البعثية المسلحة , جديرٌ ذكره أن تعاملها لم يكن مبني على أسس المصالحة الحقيقية والبناءة , بل كان وفق صفقات مشبوهة عنوانها (تبادل المنفعة ) .. بالوقت الذي يعاد كبار المسلحين والعاملين في تنظيمات محظورة منبثقة من البعث , تهمش الحكومة القوى المرتبطة بالعملية السياسية والتي كان أغلبها معارضاً لنظام صدام أو من الشخصيات المستقلة التي لم تنتمي لذلك النظام الدموي , وكان من باب أولى أن تحتوي الحكومة هؤلاء وتتصالح معهم لا تستعديهم .
لا يمكن أن توصف تلك الأجراءات إلا بالأستغلال السياسي لملف يُعتقد أنه يدر عليهم أرباح ومكاسب أنتخابية من خلال أستغلال شريحة البعثيين وربطهم بالحزب الحاكم , فبدأت عمليات الأستثناء بشكل علني وسري , تشمل الكثير من البعثيين , سيما في الدفاع والداخلية .. أن يُقدم رئس الهرم في الدولة العراقية على مخالفة صريحة للدستور والقانون هي مشكلة , لكنها تكبر عندما تكون لها تبعات وآثار سلبية على حياة الناس وسلوكية الأجهزة الحساسة في الدولة , فكلنا يسمع اليوم بظاهرة (الفضائيون) الوافدة من القاموس (البعثي ) إلى الجيش والشرطة العراقية , ولعلنا لا نخطئ أن علقنا أسباب الخروقات الأمنية إلى تلك العقليات المتحجرة والأخلاقيات التي عُرف بها أنصار النظام البائد وعلى رأس أولئك البعثيون الفريق الركن عبود قنبر وأسماء معروفة لا مجال لذكرها , يُذكر أن أسم (قنبر ) جاء ضمن قوائم أصدرتها الهيئة بأسماء 376 من كبار البعثيين المشمولين بأجراءاتها , يمارسون أعمالهم بصورة طبيعية وبدعم من رئيس الوزراء !!.. أن الحكومة ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك , فقد أعادت منتسبي (ميلشا فدائيوا صدام ) وبقرار من رئيس الوزراء , ويعد هذا الاجراء أستهانة وأستخفاف واضح بدماء الأبرياء ناهيك عن مخالفته الصريحة للدستور والقانون .
في سبيل الملك !!
لم تعد الطاقة التي تديم الحكومة بها وجودها خافية عن أحد , فلا أنجاز ولا أمن ولا أي تقدم يُذكر في أي مجالات الحياة المعطلة (كهربائياً وأمنياً ..الخ) , لذا صار لزاماً على أصحاب السلطة أن يحافظوا على مواقعهم .. برزت الأزمات التي قسّمت العراق (كمجتمع ) إلى مجاميع من الطوائف والأعراق , كلما فترت أو لفها النسيان عمد القائمون عليها لسحب قضية مؤججة جديدة لتصديرها إلى الرأي العام ضمن أطار الطائفة أو القومية , فمرة قضية كركوك والنفس العروبي الذي يلهث به (أعضاء كابينة الرئيس) وأخرى قضية تصوّرهم كحماة لمذهبٍ ما !! .. سقطت جميع الأوراق فأستخدموا ورقة مستهلكة ومبتوت بها , وهي ورقة حزب البعث المحظور , تلك الورقة التي تعامل معها المالكي بطريقة أوحت للكثيرين أنه يعتذر للبعثين ويغازلهم , حتى شاعت أخبار أشبه بالمؤكدة تفيد بأن الحكومة تتفاوض وعبر سماسرة الصفقات مع جناح (ذياب الأحمد ) , وما حجم الوجود البعثي في تركيبة الدولة العراقية الجديدة إلا مصداقاً على تلك الخروقات .
أن الأصرار على أدراج قانون (التجريم ) قد ينكسر لولا وجود بعض الشخصيات الرافضة له , أي أننا أمام حالة من أثارة الآخر لأحداث أزمة جديدة دون مضمون حقيقي , فالبعث محظور والحكومة هي المطالبة بتطهير مؤسسات الدولة من البعث , لكنها مصرّة على أحتواء من يعلن الولاء منهم لدولة الرئيس !!
لماذا هذا التوقيت ؟!
في الوقت الذي يستشعر الجميع به الخطر , نتيجة لمعطيات الأحداث التي جعلت المنطقة تغلي , ولخصوصية الوضع العراقي , صار من الواجب القيام بأجراءات وقائية تجنب البلد من الوقوع في الهاوية التي لن يدفع ثمنها إلا المواطن البسيط , فبرزت دعوات التهدئة والحوار لتعضيد الحكومة ومساندتها لأزالة كل معرقلات السياسية التي قد تقف بطريق عملها , لكنّ تقوم الحكومة هذه المرة بوضع العصي في العجلة , تصرف يستغربه أصحاب العقول .. يبدو أن الحكومة والتي أعتمدت على مستشاري (المؤامرة ) من بعثيين وغيرهم , أدركت أنها أستنفذت جميع الأوراق ولم يعد بيدها ما تستطيع أن تغطي به فشلها وتداري به خيباتها المتتالية وعلى كافة المستويات , لذا بادرت للعزف على هذا الوتر علّه يعيد بعض الوهج الذي خبا , سيما وأننا نقترب من الأنتخابات البرلمانية , وإذا ما قرأنا نتائج أنتخابات المحافظات نرى خسارة الحزب الحاكم كبيرة جداً , فهو بحاجة إلى عملية أرباك وخلط للأوراق على المستوى الوطني تمكّنه من ترتيب وضعه الداخلي ولو على حساب الأستقرار والأمن الأهلي .