- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
كيف يسقط حاكم عربي في اسبوعين؟
\"لا يمكن ان نترك الشان الاقتصادي في يد الاقتصاديين فقط\". درس في السياسة لابد من الاستماع اليه، خصوصا ان من قال تلك العبارة رجل كان اخر الحاصلين على لقب دكتاتور مخلوع، قالها في ظرف عصيب وهي تمثل خلاصة تجربته في ادارة ملف القوت اليومي الذي يعد من اعقد الملفات الضاغطة على الانسان العربي، ورغم ان حسني مبارك فشل في اسكات الغاضبين على سياساته الاقتصادية التي لم تقد البلاد الا للمزيد من الجوع والبطالة والسخط، الا ان مبارك وهو يلفظ انفاس نظامه الاخيرة ترك لنا مقولة تحتمل الوقوف عندها قليلا، فالارقام التي يعتمدها الاقتصاد كايقونات قد تفقد فعاليتها عندما تتحول الى طريقة حياة، ونتائج عمليات الطرح والضرب الناجحه على الورق لا تعني بالضرورة انها ستنجح عندما يتم امتحانها في الشارع. وكل المقاربات المحلية لنظريات الاقتصاد الحر قد تفشل في اختبار شراء كيلوغرام من السكر بألفي دينار مثلا.
وفي العراق لدينا الكثير من الطروحات الاقتصادية التي تتحرك بمنطق رد الفعل تجاه مقاربات اشتراكية عرجاء كانت سائدة في العقود الماضية، محاولة الاستفادة من التطورات الحاصلة من الاقتصاد العالمي، وتقليدا لسياسات اقتصادية متبعة في بعض الدول التي لا تمتلك ما يمتلكه العراق من ثروات، ولا تمتلك العوز التاريخي للعراقيين، ومن ابرز تلك السياسات هي محاولة الاستفادة من أعطيات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والرضوخ لاشتراطاتها في نفس الوقت، وثبت اقليميا ان تلك السياسات لا تتسبب الا بالمزيد من الضغط على قوت الشعب وخبزه اليومي وتحاصره بالمزيد من الضرائب والرسوم والاستقطاعات. وهذه امور قد لا يرى فيها المشتغلون بالاقتصاد ضيرا لان لغة الارقام المجردة هي التي تسيطر على ذهنيتهم، والنتائج الرقمية التي تنتجها حساباتهم قد تجعلهم متحمسين كثيرا لمثل تلك المشاريع دون تفكير بالعواقب، وهنا ياتي دور صانع القرار الذي يرشّد من ذلك الطموح الحسابي.
فادارة بلد ليست كادارة شركة او ادارة دكان يهدف الى الربح فقط، وهذا ما ينفض الغبار عن قول لثعلب السياسة العجوز هنري كيسنجر الذي ينبهنا الى ان الجميع يستطيعون طرح الافكار المتعلقة بادارة البلاد، السياسي والكاتب واستاذ الجامعة وقد تكون تلك الافكار ناجحة، لكن اشخاصا محدودين فقط هم الذين سيتحملون المسؤولية في ما لو كانت تلك الافكار فاشلة.
وهؤلاء هم القادة. فللاقتصاد اوجه وتأثيرات في السياسة والاجتماع، والانغماس في محاولة ايجاد حلول اقتصادية تعتمد على الرؤى الاقتصادية النظرية الخالية من الروح هو ما دفع مجتمعات كثيره الى حافة الانفجار خصوصا في حالة تحول الدولة الى ماكنة لالتهام المواطن ومدخراته دون توفر البيئة التي يتمكن من خلالها من استعادة ما يدفعه عن طريق الخدمات التي تقدم له على غرار الدول المتقدمة اقتصاديا وانسانيا.
واذا تجاوزنا مسألة الاستبداد السياسي وحصرنا المسالة بملف الاقتصاد اجزم ان حسني مبارك و\"بن علي\" دفعا ثمن نصائح مهدت لاجراءات اقتصادية فاشلة ساهمت في اسقاطهما بعد ان تظافر الشعور باستبداد السلطة مع جوع المواطن وحرمانه. واعتقد ان بعض الذين يدفعون لالغاء البطاقة التموينية مثلا او لتطبيق قاس لقانون التعرفة الجمركية او زيادة اسعار الكهرباء او غيرها سيكونون آباء لاي انجاز يتحقق في هذا السياق، لكن هل فكر احد في ما لو كانت تلك الطروحات فاشلة، او انها تساهم في تأزيم الأوضاع، او انها لا تتناسب مع واقع الانسان العراقي المنهك والمتعب الذي يحتاج للحظة استرخاء وامان وشعور بالشبع. خبراء الاقتصاد لن يتحملوا مسؤولية التعامل مع غضب الناس الذي قد يقود الى تجربة مشابهه لما يجري في مصر، ولن يشعروا بالتهديد وهم يرون المتظاهرين وهم يلوحون بالكارت الاصفر.
ولن يشعروا بالخوف على عموم تجربة التحول الجارية في العراق لان معطياتها لا تتفق مع قراءاتهم، ولن يهتموا لأمر عبد المنير الموصلي الذي احرق نفسه لانه لم يجد عملا على غرار ما فعل البوعزيزي التونسي.
نعم نحتاج الى اصلاحات اقتصادية جديدة وفكر اقتصادي جديد ومؤسسات ادارة جديدة، لكن من الواجب ان نختار اقلها ضررا بالمواطن واقلها وطئة عليه ويجب اختيار التوقيتات المناسبة لذلك، او تأجيلها لحين تعافي البلاد من ازماتها الاخرى، واختيار نظم اقتصادية تتلائم مع احتياجات الشعب العراقي.
فمهاتير محمد صنع ماليزيا الجديدة دون ان يرضخ لاشتراطات البنك الدولي بل اختار ما يلائم مجتمعه من تشريعات واصلاحات ولم يكن لديه ما لدى العراق من نفط، فلماذا نخضع لشروط دولية بخفظ الدعم للوقود والتموين مقابل ان نحصل على قروض ستحترق في النهاية في آتون سوء الادارة والفساد؟، ولماذا نتحول الى حنابلة في التعامل مع الارقام فنصنع من الدولة كائنا طفيليا يمتص دماء مواطن انهكته الديكتاتوريات والحروب وضيق ذات اليد، في الوقت الذي نحتاج اليها كأب يراعي مصالح جميع ابناءه ويشعرهم بالامان في حاضرهم وعدم الخوف من مستقبلهم؟. عند ذلك فقط يصبح من خلاف الانصاف ان نقول لها أف او ننهرها او .. نتظاهر ضدها.
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟ (الحلقة 7) التجربة الكوبية
- الأولويّةُ للمواطنِ وليسَت للحاكم