في الدراسات السياسية المقارنة نجد إن المقارنة هي عبث سفسطائي ما بين سياسة الارض المحروقة والشعب المحترق التي لم تؤدِ ـ بحد ذاتها ـ الى اسقاط نظام صدام حسين التوتاليتاري الشمولي الفاشستي وبين السياسة الخرقاء التي انتهجها نظام زين العابدين بن علي الديكتاتوري \"الكلاسيكي\" والتي ادت في نهاية المطاف الى ان يفقد مواطن تونسي فقير وبسيط ومهمش (أنموذجا للأغلبية التونسية كما كشفت عن ذلك الأحداث) صبره فأقدم على ان يحرق نفسه كاحتجاج تراجيدي خرج عن نطاق فلسفة الصمت والتعبير السلمي الذي لم يعد يجدي نفعا ازاء منظومة واسعة من الفساد السياسي لنظام بوليسي متهرئ اعتاش لاكثر من عقدين من الزمن على غابر منجزات الحقبة البورقيبية فجيرها لمآربه ومصالح بطانته الفاسدة ، ومن العبث بحسب رأيي المقارنة بين الانتفاضة الشعبانية ( آذار / شعبان 1991 ) ومابين انتفاضة الشعب التونسي فيما سميَّ بثورة الياسمين والتي ساهمت بالإطاحة بحكومة بن علي بهذا الشكل الدراماتيكي المثير، فالانتفاضة الشعبانية في حجمها المدوي لم تكن لتختلف عن اي ثورة شعبية تؤدي في نهاية المطاف الى سقوط معاقل الديكتاتورية اذا ما وضعنا الثورة الفرنسية (ابتدأت سنة 1789 وانتهت سنة 1799 ) كنسق تأريخي لنمذجة الثورات التي غيرت مسارات تاريخ شعوبها ومجالها الحيوي ونطاقها الدولي وإذا احتسبنا إن الانتفاضة الشعبانية ثورة شعبية عارمة كانت ضمن هذا النسق الثوري إن لم تكن من أهمها وأوسعها انتشارا وذلك بانتفاض غالبية الشعب العراقي ضد نظام صدام حسين عدا بعض المناطق .
ورغم ان انتفاضة الشعب التونسي من ذلك النمط الذي تنتمي اليه الانتفاضة الشعبانية فان الاسباب التي ادت الى نشوب الانتفاضة التونسية تعد جزئية او نسبية قياسا الى الاسباب التي ادت الى نشوب الانتفاضة الشعبانية وتقاس النتائج مابين الانتفاضتين على هذا المنوال ولهذا السبب لم تسلط الاضواء السياسية والاعلامية على انتفاضة الشعب العراقي ضد نظام صدام حسين الذي قمع تلك الانتفاضة بجميع الوسائل البربرية والوحشية الى درجة ان العراق كله أصبح محرقة وقدَّم الشعب العراقي مئات الآلاف من الضحايا دفن معظمهم احياء في مئات من المقابر الجماعية انتشرت على أديم خارطة الوطن بالمقابل إن جميع الاضواء سلطت على شخص حرق نفسه كرد فعل على اهانة لم يتحملها من قبل السلطات في حين ان الكارثة التي اهانت المؤسسة العسكرية العراقية عقب الهزيمة التي تلقتها بعد غزو الكويت من قبل نظام صدام لم تحظ باي اهتمام ينصف مظلومية الشعب العراقي كما انصف الاعلام مظلومية بوعزيزي الذي اعتبره البعض ليس بطلا وطنيا لتونس وحدها بل تم \"تصنيفه\" بطلا قوميا لجميع العرب ومن \"الدرجة\" الأولى .
ومن حق اي شخص ان يسأل ويتساءل لماذا فشلت (او أفشلت) الانتفاضة الشعبانية في العراق ولم تساهم في الإطاحة بنظام صدام حسين رغم التضحيات الجسام بل بالعكس ساهمت في تثبيت نظامه الذي كان على وشك الانهيار في حين ساهمت الانتفاضة التونسية ليس في إسقاط نظام بن علي فحسب بل جعلت الكثير من الحكام العرب يتخوفون من تكرار السيناريو التونسي في بلادهم كما جعلت هذه الانتفاضة جزءا من سيناريو المشهد الإيراني يتكرر بعد نجاح الثورة الإيرانية في الإطاحة بنظام الشاه (1979) حيث تخلى عن الشاه اغلب الحكومات التي كانت متعاطفة معه فرفضت استقباله كضيف او لاجئ سياسي الى ان استقر به المقام في القاهرة ضيفا على انور السادات ( اغتيل 1981 ) وذات المشهد تكرر لزين العابدين بن علي وكان من الممكن ان يتكرر لصدام حسين لو كانت الانتفاضة الشعبانية نالها قسط من النجاح، وفي رأينا ان من اهم اسباب فشل تلك الانتفاضة هو إن هدير الماكنة العسكرية الهائلة التي أدارت دفتها الولايات المتحدة مع اكثر من ثلاثين دولة في \"عاصفة الصحراء\" في حرب الخليج الثانية 1991 لسحق ما تبقى من قوات صدام حسين التي غامر بها مع الجارة الكويت بعد ان خرجت مثخنة بالجراح من مغامرة حرب السنوات الثمان مع الجارة ايران (1980 / 1988) ، مازال مدويا ولم تتوضح بعدُ مصير ذلك النظام حيث كان المشهد العراقي يلفه الكثير من الضبابية جراء الفوضى العارمة التي سادت هذا المشهد ولوجود أكثر من لاعب إقليمي ودولي كان يساهم في تحريك بعض الأحداث، ومن جملة أسباب عدم الاهتمام (والدعم ) السياسي والاعلامي ان الوضع الدولي والاقليمي لم يكن يحتمل التغيير الشعبي سيما وان الانتفاضة الشعبانية حدثت في وقت مازالت تداعيات واسقاطات انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي والتي انتهت بسقوط الثاني وتفكك الاتحاد السوفياتي فضلا عن الحسابات الدولية والقوى العظمى ذات الحساسية الإستراتيجية تجاه منطقة الشرق الاوسط عموما ومنطقة الخليج خصوصا وبالأخص إيران التي كانت ومازالت تشكل عقدة مستعصية ضمن تلك الحسابات فخشيت القوى العظمى من اختلال ميزان القوى ان اطيح بصدام حسين آنذاك لصالح قوى إقليمية اخرى كايران مثلا، إن كانت تلك الاطاحة عن طريق الداخل سواء أ كان عن طريق المؤسسة العسكرية او عن طريق الثورة الشعبية ، وهناك سبب آخر لفشل الانتفاضة الشعبانية يتعلق بحساسية الملف العراقي في حسابات الامن القومي الأمريكي ومنظومة المصالح الأمريكية في المنطقة وفي العراق خصوصا ، وكذلك في حسابات المناخ الاقليمي العام والتي يبدو انها لم تكن متحمسة للتغيير الذي قد يبدو ـ وفق تلك الحسابات ـ ذا وجه طائفي / مذهبي أكثر مما يبدو انه سياسي وربما كانت حسابات \"البيدر\" الأمريكي ومعه الاقليمي غير متواشجة مع حسابات البيدر العراقي ومصالح الشعب العراقي وان كان على مستوى شعبي عارم وبعد وطني حقيقي لانقاذ البلاد من ويلات الديكتاتورية وعلى عكس الانتفاضة التونسية التي انتظمت فيها مجمل التيارات السياسية والأيدلوجية فضلا عن المؤسسة العسكرية والشرائح الاجتماعية في مسلك واحد باتجاه التغيير الحقيقي اضافة الى ان الواقع التونسي يختلف اختلافا كليا عن الواقع العراقي سياسيا واقتصاديا وتنمويا وديموغرافيا واجتماعيا فان الانتفاضة الشعبانية كانت ثورة شعبية لكنها لم تكن بهذا المستوى من التنظيم والتلاحم مابين الشرائح والفئات والأنساق السياسية والمجتمعية والايديولوجية كما ان المؤسسة العسكرية العراقية لم تكن بمستوى الوعي والشعور بالمسؤولية الوطنية التي تحتم عليها اخذ دورها التاريخي في التغيير واذا اضفنا الى كل ذلك مقبولية الواقع الاقليمي والدولي وحتى المحلي الى هذه الثورة او تلك مع طريقة معالجة السلطة الحاكمة لتداعياتها تتوضح لنا بعض الخيوط لملابسات اخفاق الثورة الشعبانية قياسا الى التونسية التي نجحت بشكل اذهل جميع المراقبين.
وبغض النظر عن اسباب ومآلات والنتائج المترتبة عن الانتفاضة الشعبانية وطبيعة الاتجاهات التي شاركت في تاجيجها إسلامية كانت ام غيرها فان الالتفاف (المحلي والاقليمي والدولي) الذي ساهم في تحجيم وفشل هذه الثورة هو ذاته الذي ساهم وما يزال يساهم في الاجهاز على التغيير النيساني الذي اطاح بالديكتاتورية وما شهده ومايزال يشهده الملف العراقي من احداث ارهابية وتداعيات سياسية الا نموذج حي ومستمر على هذا الالتفاف وهو ما يفسر ايضا اهم الاسباب التي ساهمت في افشال الانتفاضة الشعبانية وكأن الشأن العراقي ليس شأنا داخليا ولايجب ان تحترم ارادته في التغيير وتقرير مصيره فقامت تلك القوى بالإجهاز على تلك الانتفاضة بكل الوسائل لتحقيق الإستراتيجية الدولية والإقليمية تجاه العراق في رؤية عراق ذي توجه ديكتاتوري (شرطي المنطقة تحت الطلب ولتحقيق التوازن عند اقتضاء تلك المصالح) وشعب فقير وضعيف يكون جزءا فعالا لتنفيذ هذه الستراتيجة لصالح تلك القوى وهذا ما يفسر ايضا صعود جميع اغلب تلك القوى حتى المشايخ والامارات الصغيرة منها فضلا عن الدول التي تتمتع بهامش إستراتيجي نسبي ، صعودها على اكتاف الاهمية الجيبولوتيكية العراقية وللاسباب ذاتها وهو ما يفسر ايضا مدى \"مقبولية \" وتقبل المجتمع الدولي والواقع الاقليمي المغاربي والعربي للثورة التونسية ولو حظيت الانتفاضة الشعبانية بمثل هذا القبول لربما تكون قد تغيرت الخارطة السياسية للشرق الاوسط عموما ولتغيرت خارطة المشهد السياسي العراقي وربما لم يكن ليشهد احتلالا أبدا سواء كان احتلالا أمريكياً كما حصل أم كان احتلالا من قوى أخرى بحكم تراتب المصالح الدولية والإقليمية في هذا البلد ، فيكون من أهم أسباب فشل الانتفاضة الشعبانية هي المصالح الستراتيجة للقوى الكبرى في هذه المنطقة الحيوية من العالم وللتخطيط لسيناريو بعيد الامد لترتيب اوضاع المنطقة ومنها العراق وفق تلك المصالح فكانت الانتفاضة الشعبانية مغامرة دفع ثمنها الشعب العراقي باهظا لانها كانت فرصة للتغيير عكس التيار الدولي والاقليمي وحتى المحلي فيما كانت الانتفاضة التونسية متناغمة تماما مع ذلك التيار وهذا سبب نجاحها المدوي وتأثيرها الذي خرج عن نطاق التراب التونسي .
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- العراق: آخر البيانات والمعطيات الرئيسة (نيسان 2022)
- أسرار وأبعاد ومعطيات زيارة الإمام الحسين عليه السلام
- العنوان .. معطيات الرياضة الروحية الرمضانية