لديّ صديق لا مقاومة لديه اذا دق جرس النوم في ساعته البايولوجية، ذات مرة، في الثمانينيات، و اثناء الحرب العراقية ـ الايرانية، في الصيف تحديداً، تأخر ليلاً مع صحبه في سهرة، خرج مسرعاً للشارع العام وهو يترنح كالسكران في محاولة منه للحصول على تكسي يقله للبيت، حيث الفراش، وحين أراد عبور الجزرة الوسطية إنزلقت قدمه ليسقط على الارض ويغط في نوم عميق، يقول صديقي عن تلك الحادثة: أحسست بتيار بارد، وأنا نائم مددت يدي كالاعمى أتلمس في الفراغ بحثاً عن غطاء ألتف به، فجاء بيدي شرشف، سحبته بقوة على جسدي وتغطيت به لأكمل نومي دون اية ازعاجات. في الصباح استيقظ ليجد نفسه وسط تلك الجزرة وأصوات السيارات والباعة تحيط به. الذي أدهش صديقي هو الشرشف الذي تغطى به، فلقد كان لافتة من لافتات صدام، أيام تلك الحرب الحقيرة، كان مكتوباً عليها \"الفاو مقبرة الغزاة\"!. بعد حادثة صديقي تلك، وفي السنوات التي تليها، انشغل عدد كبير من الباحثين في العالم في حل لغز النوم ومعرفة آلياته ووظائفه، وفعلاً توصلوا الى حالة صديقي تلك، وأطلقوا عليها \"متلازمة النوم المبكر\" بعد أن وضعوا أيديهم على الجين المسبب لتلك المتلازمة، الذي سيكون مسؤولاً عن افراز بروتين معين له دور رئيس، كما يقولون، في تنظيم الساعة البايولوجية للجسم. دراسات كثرة ظهرت مؤخراً عن النوم، جميعها تؤكد أن للنوم أهمية كبيرة للجسم والدماغ، اي ان النوم ليس زمناً ضائعاً من عمر الانسان كما كان يُعتقد سابقاً، باحثون من جامعة هارفارد أكدوا ذلك بالقول: ان النوم العميق وخصوصاً في الليل يساعد على انعاش جوانب معينة من الذاكرة، وفعلاً قاموا بتجربة على قطط قسموها على مجموعتين، الاولى حرمت من النوم، والثانية لا، فوجدوا ان ادمغة القطط التي سُمح لها بالنوم لمدة تزيد على ست ساعات، بعد تجربة معينة، أظهرت تغيراً وتكيفاً أكثر من تلك التي لم يُسمح لها بالنوم، الباحثون اضافوا ايضاً: ان هذه النتائج قدمت دليلاً على ان النوم يساعد الدماغ على اداء وظيفته بشكل جيد، البروفيسور مايكل ستريكر يبسط تلك النتائج بلغة اقرب حين يقول: ان هذه الدراسة تعني ان الطالب لو راجع دروسه جيداً حتى نال منه التعب ثم نام، فأن الدماغ سيستمر في العمل اثناء النوم بنفس الطريقة، كما لو ظل الطالب طوال الليل يردد ما درسه. طبعاً حديث جماعة البروفيسور ستريكر المسترخي والمليء بالبطر لا يعني العراقيين باي شكل من الاشكال، خاصة هذه الايام، فليس هنالك نوم عميق في الليل، بل ليس هناك نوم اصلاً على مدى شهور فصل الصيف هذا، فالعراقيون بعد موت الكهرباء ليس امامهم سوى السطوح، والسطوح حل مزعج ايضاً، فلا تمر ليلة دون ان يثقب أذنيك صوت مدوٍ لطائرة تخطف قريباً من وجهك حتى تكاد تأخذ أنفك معها، او صوت مولدة مسعورة يشغلها جار جلف، دون سابق انذار، وفي ساعة متأخرة من الليل، العواصف في صيف العراق بخير وعافية، لذلك ستغطيك الاتربة بالكامل وتسد منخريك، لتقفز من فراشك خابطاً بيديك كالغريق، ولتعبّ اكبر كمية من الهواء بفمك. الحر دبق والرطوبة عالية هذا الصيف مما يجعل اغفاءة لنصف ساعة ضرباً من الخيال او الحلم او المستحيل، باختصار شديد عاش العراقيون هذا الصيف بادمغة مشوشة وذاكرة مضطربة. وبمناسبة النوم العميق والصيف والسطوح، قبل يومين وقريباً من الفجر غفوت لأكثر من ساعة على السطح، نمت بعمق دون ان امر بمراحل النوم الاربع، حتى اني لم اسمع صوت طائرة او مولدة، ولم تهب عليّ اتربة التغيير، نمت كطفل خرج تواً من الحمام، وحلمت اني تحت شجرة وارفة، ظلالها باردة، شجرة لم تكن اوراقها كما اوراق الشجر، بل كانت عبارة عن عملة من فئة المئة دولار، كلما هبت نسمة باردة تحركت الاوراق لتتساقط الدولارات عليّ وتغطي جسدي كله، لم اكن انانياً في حلمي، لذلك رأيت ايضاً جيراننا، حتى صاحب تلك المولدة، أجسادهم مغطاة بالدولارات، في الصباح استيقظت، فوجدت أن تلك الاوراق عبارة عن منشورات صغيرة قذفت بها الطائرات الاميركية على سطوحنا مكتوب عليها \"مطلوبون للعدالة لارتكابهم جرائم بحق الشعب العراقي\" وفيها صورة لشخص، في الوجه الاخر لتلك الورقة هنالك صورة لقيد حديدي مكتوب حولها \"أهلا بعودتكم لقد كنا بانتظاركم\".
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد