يرصد هذا التحقيق قصصا موثقة لإصابات وتشوهات في موقع “التويثة” النووي «مفاعل تموز» الواقع في جنوب شرق بغداد، والذي أنشأه النظام السابق كموقع نووي قبل نحو نصف قرن، وتعرض لقصف خارجي متكرر في العقود الماضية.
لم تتوقع أم نور، أن “برميلا“ من مخلفات ما كان يدخره النظام السابق في مستودعاته، سيكون كفيلاً بإنهاء حياة شقيقتيها “هدى” و”تبارك”، إذ تتذكر وملامح الحزن واضحة على محياها، كيف كانت تتجول مع أفراد عائلتها (مع بدء الاحتلال الأمريكي للعراق وبعيد التاسع من نيسان 2003) في أحد شوارع منطقة التويثة، جنوب شرقي العاصمة بغداد: “عثرنا على براميل كبيرة وفُرْن تبيّن فيما بعد أنه كانت تتم فيه تعبئة المواد النووية. وعلى الرغم من كون البراميل تحتوي على مادة الكعكة الصفراء (أكسيد اليورانيوم)، أصرت شقيقتاي على أخذ أحدها وتفريغه من تلك المادة بغرض استخدامه في حفظ الماء، وعمل ”الطرشي -المخلل-”، ولكنهما بعد فترة وجيزة أصيبتا بالسرطان وتوفيتا”.
قصة أم نور وشقيقتاها، هي إحدى القصص المؤلمة التي حصلت في واحدة من أخطر مناطق التلوث الإشعاعي في العراق، وراح ضحيتها السكان، أمام تخاذل الدولة عن إزالة المواد المشعّة وحماية المواطنين في هذه المناطق.
أموات على قيد الحياة
يُعدّ موقع التويثة مقرا رئيسا لمنشأة التويثة للأبحاث النووية والتي تمثّل في الأصل بقايا البرنامج النووي العراقي الذي تم إطلاقه في سبعينيات القرن الماضي، بعد أن أبرمت الدولة وقتها اتفاقا مع الاتحاد السوفياتي على إنشاء محطة نووية تضم “مفاعلي تموز” وساهمت فرنسا في تشييدهما.
وفي 7 حزيران عام 1981، شنت ثماني مقاتلات حربية إسرائيلية من طراز (F16 -F15) هجوما شرسا بـ16 صاروخا استهدف منشأة التويثة للأبحاث النووية، فتحولت إلى أنقاض في عملية عرفت بـ”أوبرا”، ثم في عام 1992، تعرض الموقع إلى قصف أمريكي استهدف عددا من الأبنية، وتلاه قصف آخر خلال عام 2003 حتى أصبح ملوثا اشعاعيا.
“شقيقتاي أخذنا برميلا لخزن الماء، وبعد فترة قصيرة أصيبتا بالسرطان وتوفيتا”.
أم نور من سكان «التويثة»
يرصد هذا التحقيق عشرات الإصابات والوفيات في موقع التويثة، تعرفنا على قصصها من خلال زيارة المنطقة والحديث مع سكانها، حيث يصف رافد محمد، أحد وجهائها، حالهم “بأنهم أموات على قيد الحياة”، فهو يعتقد بأنه معرض للإصابة بالسرطان بعد أن توفيت والدته بمرض سرطاني في مطلع عام 2024، وكذلك ابن عمه، فضلا عن إصابة أطفاله، مصطفى ونور، بتشوهات خلقية وجسدية في الأيدي والأقدام والعينين.
وعلى الرغم من علم سكان المنطقة باحتوائها على إشعاعات نووية، فإنهم يرفضون الرحيل عنها، مبررين ذلك بالفقر والعوز المادي اللذين يجبرانهما على البقاء، بل إنهم امتنعوا عن التصوير معنا خوفا من إمكانية ترحيلهم منها من قبل السلطات العراقية المتمثلة بوزارة الداخلية ومديرية الطاقة الذرية.
تحدث السكان عن حصول حالات إجهاض عند النساء الحوامل وتشوهات خلقية لدى أطفالهم. ولكن عندما أردنا التأكد من ذلك، رفضت المصادر الحكومية بوزارة البيئية، وكذلك مستشفى الزعفرانية المحاذي للمنطقة إعطاءنا أي تصريح. هذا ما دفعنا للذهاب إلى بدور تحسين، وهي ممرضة وقابلة مأذونة معروفة في منطقة التويثة لمعرفة تفاصيل أكثر حول ما يحصل في المنطقة.
حدثتنا الأخيرة عن تزايد حالات الإجهاض نتيجة للتلوث البيئي، كما حصل مع إحدى شقيقتها، كما ذكرت أيضا التشوهات الخلقية التي تصيب الأطفال، فخالتها مثلا أنجبت ثلاثة أطفال جميعهم لديهم تشوهات خلقية، وهو ما جعلها تنفصل عن زوجها هربا من الإنجاب، وهذا الحال ينطبق على الكثير من النساء في منطقة التويثة، بحسب بدور.
نحن أموات على قيد الحياة.. والدتي توفيت بالسرطان، وأطفالي يعانون من تشوهات.. والسكان يرفضون المغادرة بسبب الفقر والعوز
شهادة لأحد سكان التويثة
تفشي السرطانات
سمحت القوات الأمريكية في العاشر من نيسان عام 2003 لأهالي المناطق القريبة من ناحية جسر ديالى بدخول موقع التويثة النووي ونهب محتوياته، والتي تتكون معظمها من مواد ملوثة إشعاعيا وهذا ما يعرف بـ”الحواسم”، فأصبحت الأمراض تنتقل إلى بعض المناطق المحاذية للموقع، كونها تحتوي على بقايا السوائل الناتجة عن عمليات القصف والتي تعد ملوثة إشعاعيا.
ومنذ ذلك الوقت، بدأت الخبيرة في مجال معالجة الملوثات الإشعاعية الدكتورة إقبال لطيف، في إجراء مسوح ميدانية في المناطق المحصورة بين الزعفرانية (غرب موقع التويثة) مرورا بجسر ديالى وصولا إلى قريتي الوردية والجعارة (شرق التويثة).
وصفت لطيف هذه المنطقة بكونها من أخطر المناطق الملوثة في العاصمة بغداد، إذ تمكنت من قياس الناتج النهائي لليورانيوم في 238 هكتارا من التربة عبر زراعة نبات الرشاد فيها بحسب براءة الاختراع أدناه (انظر الصورة المصاحبة).

وُجد في 10 آلاف متر مربع متفرقة 3.720 غم من اليورانيوم، وذلك كله عبر تجربة استغرقت ثلاثة أشهر، بينما يجب أن تكون النسبة العادية 0.02 غم، كما تمكنت الخبيرة، من رصد زيادة كبيرة بنسبة نظير البوتاسيوم في بعض العناصر الأخرى، وهو دليل على فقدان التربة لخصوبتها بسبب ارتفاع نسبة اليورانيوم المنضب (وهو أحد المنتجات الثانوية لعملية التخصيب النووي).
ويؤدي ارتفاع نسبة اليورانيوم المنضب في الدم إلى مشاكل صحية مثل اللوكيميا، وفشل الكلى، وأمراض الجهاز التنفسي، والعيوب الخلقية. وقد تظهر آثار صحية حادة وقصيرة المدى عند التعرض لكميات كبيرة من اليورانيوم.
شهادات:
– نساء في التويثة يرفضن الإنجاب خوفا من الولادات المشوهة.. وخالتي طلبت الطلاق بعد إنجاب ثالث طفل مشوه
بدور تحسين، ممرضة وقابلة مأذونة
– أُرغمتُ على العمل قرب «مفاعل تموز» أثناء تفكيكه رغم طلبي الإعفاء، فأُصبت بإشعاعات خطيرة
جاسم حطاب: موظف في مديرية الطاقة الذرية
لم تقتصر محاولات الخبيرة إقبال لطيف، الكشف عن نسب الإشعاع في هذه المنطقة على الدراسات والتجارب العلمية، بل افتتحت في عام 2018 في منطقة الزعفرانية، مركزا متخصصا لدعم المصابين بالتلوث الإشعاعي. وبحسب سجل المراجعات للمرضى، تبيّن أن هناك أنواعا مختلفة من الأمراض السرطانية التي تجاوزت أكثر من 80 إصابة لحد الآن، حيث احتل سرطان الثدي المرتبة الأولى، وجاء بعده سرطان الدم في المرتبة الثانية، والقولون في المركز الثالث، كما سُجلت عشرات الحالات لسرطانات الجهاز الهضمي كسرطان البنكرياس، وتم تسجيل إصابات بسرطان الكبد والمستقيم والمعدة والغدد والعين وغيرها، موضحة أن “ارتفاع سرطان الغدد في تلك المنطقة مؤشر على كمية الإشعاع والجرعات الإشعاعية العالية جدا”.
موظفون مصابون
في 26 آذار 2019، أصدرت لجنة الصحة والبيئة في مجلس النواب، بيانا أقرّت فيه بوجود “تخبط” في عمل مديريات الطاقة الذرية التابعة لوزارة العلوم والتكنولوجيا المدمجة مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، كاشفة عن إصابة أحد موظفي مديرية الطاقة الذرية واسمه جاسم حطاب بـ“اشعاعات خطرة وطفح جلدي وتشوهات وانخفاض في كريات الدم البيضاء”، وعزت اللجنة ذلك، إلى إرغامه (حطاب) على العمل قرب مفاعل تموز النووي في موقع التويثة، أثناء تفكيكه عام 2018 بالرغم من طلبه الإعفاء.
وبعد بحث طويل وصلنا إلى موظفين مصابين بأمراض مماثلة في مديرية الطاقة الذرية، لكنهم وبعد محاولات عدة لإقناعهم بالحديث، وافق أبو يوسف، أحد أقدم الموظفين في هذه الدائرة على التواصل، حيث يُرجّح إصابة أكثر من 120 عاملا في مجال رفع النفايات المشعة ومعالجتها، بأمراض. ويعتقد أن خمسة إلى ثمانية منهم على الأقل أصيبوا بأمراض سرطانية وآخرون بأمراض متعددة أخرى كالفشل الكلوي والأمراض الجلدية الحادة، وفي هذا الصدد، يتذكّر قصة وفاة صديقه محمود فاضل، الذي وافته المنية في عام 2008 بسبب تليف نخاع العظم.
ويبلغ عدد الأجراء اليوميين الذين يعملون في دائرة العلوم والتكنولوجيا 138 أجيرا يتوزعون على مديريات وتشكيلات الوزارة، 33 منهم ينتسبون إلى دوائر تعنى مباشرة بالعمل الإشعاعي في مديريات الطاقة الذرية، منهم 14 أجيرا في مديرية معاملة النفايات المشعة، وسبعة أجراء في مديرية تصفية المنشآت النووية، و12 غيرهم في مديرية إسناد المواقع، وفقا لمعلومات خاصة من موظفين عاملين في دائرة العلوم والتكنولوجيا، رفضوا الكشف عن هوياتهم.
3.720 غرام من اليورانيوم في 10 آلاف متر مربع من التربة، بينما النسبة الطبيعية لا تتجاوز 0.02 غرام
دراسة علمية ميدانية
وزارة الصحة تنفي
طلب كاتب التحقيق إجراء مقابلة مع وزارة الصحة العراقية لبيان موقفها من الإصابات، لاسيما وأنها كانت تتولى ملف البيئة حتى عام 2020، ولكنها نفت وجود التلوث الإشعاعي في موقع التويثة بعد قيامها بفحص المنطقة، حيث أظهرت نتائج أجهزة المسح الخاصة بها خلو المنطقة من الإشعاع.
في هذا الصدد، يقول المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، الدكتور سيف البدر، إن “الوزارة لم تسجل إصابات خلال الثلاث سنوات الماضية”، وأرجع أسباب الأمراض التي تحدث في الوقت الحالي إلى “عامل وراثي”، فضلا عن “عدم مبالاة سكان المنطقة بالسلامة الصحية”.
في حين يعتبر الخبير البيئي والصحي، الدكتور حيدر معتز، أن منطقة التويثة بحاجة ماسة الى فحوصات دورية للتأكد من الإشعاع، فإذا أثبتت أجهزة الفحص وجوده، عندها من المفترض تحذير سكان المنطقة أو العمل على إزالة المصادر المشعة.
دعوات لمعالجة الإشعاعات
ومع كل حكومة جديدة في العراق، تبرز دعوات من قبل سكان المناطق التي تحتوي على تلوث إشعاعي، إلى ضرورة معالجة مناطقهم، وذلك من خلال تنظيم تظاهرات ووقفات احتجاجية، إلا أنه لا توجد إلى حد الآن استجابة فعلية لمطالبهم من قبل الجهات المختصة، خاصة وأن وزارة الصحة تنفي وجود تلوث بيئي، في حين يؤكد المواطنون ارتفاع معدلات الإصابات بالأمراض والسرطانات والتشوهات الخلقية.
وليست منطقة التويثة وحدها التي تحتوي على تلوث إشعاعي، وإنما توجد مناطق أخرى، مثل منطقة القبلة في محافظة البصرة جنوب العراق، والتي تحتوي على تلوث إشعاعي ناتج عن انفجار دائرة البدالة “المركز الرئيسي للاتصالات” بقصف أمريكي خلال فترة احتلال العراق، لتبقى مسألة إزالة الإشعاعات مطروحة بقوة، خاصة أمام تواصل الآثار الصحية الخطرة على السكان.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!