بقلم: القاضي حبيب إبراهيم حمادة
تعد ظاهرة تجريف الأراضي الزراعية من أسوأ الظواهر التي انتشرت في المجتمع العراقي في السنوات القليلة الماضية، والتي تعرف بكونها رفع الطبقة العليا من سطح التربة المستخدمة للأغراض الزراعية بغية استعمالها لاغراض اخرى خارج السياقات القانونية، الامر الذي يقلل من خصوبتها ويزيد من خطر التصحر وتأثير ذلك على البيئة والمناخ بسبب تقليل كمية الأوكسجين وزيادة تركيز ثاني أوكسيد الكاربون في الهواء بشكل يؤدي الى اتساع ظاهرة الاحتباس الحراري.
وتعد الأراضي الزراعية ثروة وطنية توجب الحفاظ عليها بشتى الطرق والوسائل بسبب أهميتها في توفير الأمن الغذائي للافراد المجتمع وعنصرا أساسيا للاقتصاد الوطني، والحفاظ على بيئة سليمة وملائمة للعيش، فقد عرفت الزراعة الحافظة من قبل منظمة الاغذية والزراعة كونها (نظام زراعي يشجع على المحافظة على غطاء تربة دائمة والتقليل من اضطرابات التربة والتنويع في مختلف النباتات كما تعزز التنوع البيولوجي والعمليات البيولوجية الطبيعية سواء فوق سطح التربة او تحتها مما يساهم في زيادة كفاءة استخدام المياه والمغذيات وفي تحسين انتاج المحاصيل الزراعية واستدامتها. الا ان اهمال القطاع الزراعي كان سببا دافعا لترك زراعة الكثير من الاراضي الزراعية او هجر البساتين الامر الذي شجع على تجريفها او تفتيتها الى عدة اجزاء بغية استعمالها لاغراض اخرى غير الاغراض المخصصة لها في الزراعة وانتاج المحاصيل الزراعية الأمر الذي رتب اثاره السلبية على الفرد والمجتمع على حد سواء. وترتب على تحول الاقتصاد العراقي الريعي الاحادي بالاعتماد على الواردات النفطية في دعم الموازنة العامة على حساب قطاعات اخرى لاتقل اهمية في دعم تلك الموازنة كالصناعة او السياحة وغيرهما اضافة للقطاع الزراعي، من عدم دعم المزارعين ماديا وتفشي ظاهرة الفساد المالي والاداري فيه وارتفاع تكاليف الانتاج الزراعي بحيث اصبحت لا تتناسب مع الواردات التي يمكن ان يجنيها من زراعته لارضه الزراعية ولايمكن ان تسد رمق الفلاح على ضوء زيادة تكاليف المعيشة ورغبته في جني فوائد مالية عالية وسريعة الورود باستغلاله لارضه الزراعية بطرق اخرى غير الزراعة والتوسع في استيراد المحاصيل الزراعية من الدول المجاورة وشحة المياه بسبب تغير المناخ او مواقف بعض دول الجوار من ذلك ، اضافة الى النمو السكاني المتسارع بحيث اصبح تعداد السكان حسب اخر الاحصائيات بما يقارب من (٤١) مليون نسمة، والحروب العسكرية السابقة وعمليات تنقيب النفط والغاز بجوار بعض الاراضي الزراعية وقلة الوعي الزراعي وثقافة التوجه نحو العاصمة او مراكز المحافظات لطلب التعين في الوظائف المدنية او العسكرية انما يعد من اهم الاسباب التي دفعت الفلاحين الى ترك اراضيهم الزراعية، الامر الذي اوجد ارضية خصبة للزحف العمراني وفسح المجال امام الغير لغرض استغلال تلك الاراضي لاغراض اخرى غير الزراعة واستثمارها بمشاريع سكنية او صناعية او تجارية، بعد ان يتم تجريفها او تفتيتها، سيما ان هنالك من القرارات الإدارية التي ساعدت على ذلك من خلال السماح بتحقيق تلك الغاية وفق شروط وضوابط محددة قانونا.
وبغض النظر عما اذا كانت تلك الاراضي والبساتين مملوكة ملكا صرفا ام انها عقود زراعية، بحيث اضحت المساحة المستغلة فعليا للزراعة هي ١٨ مليون دونم من مجموع الاراضي المخصصة للزراعة في العراق والبالغة ٣٢ مليون دونم بحسب احصائيات وزارة الزراعة، وذلك كله بخلاف عما هو عليه الحال في العديد من الدول الاخرى التي تعمل على التوسع في المساحات الخضراء لاهميتها في الحد من التصحر وتوفير مستلزمات العيش الضرورية لافراد المجتمع ضمن مناخ ملائم ونقي وبيئة سليمة وصحية.
وقد وردت العديد من النصوص القانونية في قوانين متعددة التي توجب المحافظة على الاراضي الزراعية والبساتين واستخدامها للأغراض المخصصة لها وعدم تجريفها او تجزئتها لغير الزراعة، ومن ذلك المادة (٢/٤٦) من قانون الاصلاح الزراعي رقم ١١٧ لسنة ١٩٧٠ التي اوجبت فرض عقوبة الحبس لمدة لاتزيد على سنة او الغرامة بحق ايا من اطراف العلاقة الزراعية الذي خالف عمدا او اهمالا التزاماته في العناية بالارض الزراعية او زرعها على وجه يؤدي الى نقص في كفائتها الانتاجية.
والمادة (٢/و/١) من قانون حماية وتنمية الانتاج الزراعي رقم ٧١ لسنة ١٩٧٨ التي نصت على (١: العناية بالارض وعدم ترك زراعتها او استعمالها لغير الاغراض الزراعية والامتناع عن كل مايضعف خصوبتها ويقلل من كفاءتها الانتاجية)، والمادة ١٢/ اولا منه بفرض عقوبة الحبس لمدة لاتزيد على ستة اشهر او بغرامة لاتزيد على ثلاثمائة دينار او بكلتا العقوبتين ، كل من خالف احكام هذا القانون او البيانات الصادرة بموجبه.
وايضا ما ورد عليه النص في المادة (١٧) من قانون حماية وتحسين البيئة رقم ٢٧ لسنة ٢٠٠٩ بانه( يمنع ماياتي/ اولا : اي نشاط يؤدي بطريق مباشر او غير مباشر الى الاضرار بالتربة او تلوثها على نحو يؤثر في قدراتها الانتاجية وعلى السلسلة الغذائية والنواحي الجمالية الا وفقا للتشريعات النافذة....ثانيا: عدم الالتزام بالتصاميم الاساسية للمناطق الحفرية وحماية الارض من الزحف العمراني)، اضافة الى نص المادة (٦) من قانون بيع وايجار الأراضي الزراعية رقم ٢٤ لسنة ٢٠٢٤ بنصها (أولا/ يلتزم المستأجر بموجب احكام هذا القانون بما يأتي ...ج: عدم الاضرار بالاراضي الزراعية والمحافظة على خصوبتها...ثانيا/ لايجوز استغلال الارض المؤجرة لغير الاغراض التي اؤجرت من اجلها ولا يجوز للمستأجر تجزئتها باي حال من الاحوال)، كما ورد النص في المادتين ٤٧٩ و ٤٨٠/ من قانون العقوبات رقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ على فرض العقوبة المقيدة للحرية او الغرامة او بإحداهما بحق المتهم الذي يتلف او يلحق الضرر بشجرة تعود للغير، كما تضمن قرار مجلس الوزراء المرقم ٥٠ لسنة ٢٠١٦ ايقاف تجريف البساتين والاراضي الزراعية ومنع تحويلها الى قطع سكنية او تغير استعمالها لاغراض اخرى الا بتوافر الشروط الواردة بالقرار المذكور وهي ان يكون البناء غير مخالف للتصميم الاساسي وان تكون القطعة الزراعية مبنية على شكل مجمع سكني وان يكون البناء المشيد على القطعة من المواد الثابتة.
وقد تصدى مجلس القضاء الاعلى الموقر لمعالجة ظاهرة تجريف الاراضي الزراعية جذريا بغية الحد منها، نظرا لما ترتبه من اثار سلبية تجاه الافراد والمجتمع والمساس بالاقتصاد الوطني، اذ ورد في التعميم الصادر من مكتب رئيس المجلس المرقم ٢٥٠/ مكتب/ ٢٠٢٥ العديد من الحلول المقترحة بشأن موضوع تفتيت الاراضي الزراعية ومن ضمنها( تشديد العقوبات الجزائية وفرض عقوبة الحبس او السجن بدلا من الغرامة المالية والغاء الكفالة مع ضرورة اتخاذ التدابير الاحترازية اللازمة من خلال القضاء على التجاوز والحد منه). واذا كانت النصوص القانونية بشان معالجة الموضوع قد وردت في العديد من القوانين المختلفة، لذا فان واقع الحال يوجب تشريع قانون موحد بعنوان (قانون منع تجريف او تفتيت الاراضي الزراعية والبساتين) يحتوي على نصوص واضحة وصريحة لمعالجة تلك الظاهرة وفرض العقوبات المناسبة لمخالفيها بغية الردع والاصلاح والحفاظ على الثروة الزراعية وحماية الاقتصاد الوطني.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!